الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني من الباب الأول

في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها .

وهذه الأوقات اختلف العلماء منها في موضعين : أحدهما : في عددها .

[ ص: 88 ] والثاني : في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها . .

المسألة الأولى

[ عدد الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ]

اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي : وقت طلوع الشمس ، ووقت غروبها ، ومن لدن تصلى صلاة الصبح حتى تطلع الشمس .

واختلفوا في وقتين : في وقت الزوال ، وفي الصلاة بعد العصر ; فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة : الطلوع ، والغروب ، وبعد الصبح ، وبعد العصر ، وأجاز الصلاة عند الزوال ، وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة ، واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر .

وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين : إما معارضة أثر لأثر ، وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل : ( أعني عمل أهل المدينة ) وهو مالك بن أنس ، فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه ، وحيث ورد المعارض اختلفوا .

أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر ، وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال : " ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل ، وحين تضيف الشمس للغروب " خرجه مسلم ، وحديث أبي عبد الله الصنابحي في معناه ، ولكنه منقطع ، خرجه مالك في موطئه .

فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها ، ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال ، إما بإطلاق وهو مالك ، وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي ، وأما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث : ( أعني الزوال ) أباح الصلاة فيه ، واعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل .

وأما من لم ير للعمل تأثيرا ، فبقي على أصله في المنع ، وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي ، وهو الذي يدعى بأصول الفقه .

وأما الشافعي فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي ، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع ما رواه أيضا عن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة " استثنى من ذلك النهي يوم الجمعة ، وقوى هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك ، وإن كان الأثر عنده ضعيفا .

وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك ، فبقي على أصله في النهي .

[ ص: 89 ] وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك ، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما : حديث أبي هريرة المتفق على صحته " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " .

والثاني : حديث عائشة قالت : " ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية : ركعتين قبل الفجر ، وركعتين بعد العصر " فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع ، ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا ; لأنه العمل الذي مات عليه - صلى الله عليه وسلم - قال بالجواز ، وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة ، وفيه " أنها رأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد العصر ، فسألته عن ذلك فقال : إنه أتاني ناس من عبد القيس ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان " .

التالي السابق


الخدمات العلمية