الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق العشرون والمائتان بين قاعدة ما يشترط فيه العدالة وبين قاعدة ما لا يشترط فيه العدالة )

قد تقرر في أصول الفقه أن المصالح إما في محل الضروريات أو في محل الحاجيات أو في محل التتمات ، وإما مستغنى عنه بالكلية إما لعدم اعتباره ، وإما لقيام غيره مقامه ، والفرق ها هنا مبني على هذه القاعدة فإن اشتراط العدالة في التصرفات مصلحة لحصول الضبط بها وعدم الانضباط مع الفسقة ، ومن لا يوثق به فاشتراط العدالة إما في محل الضرورات كالشهادات فإن الضرورة تدعو لحفظ دماء الناس وأموالهم وأبضاعهم وأعراضهم عن الضياع فلو قبل فيها قول الفسقة ، ومن لا يوثق به لضاعت .

وكذلك الولايات كالإمامة والقضاء وأمانة الحكم ، وغير ذلك من الولايات مما في معنى هذه لو فوضت لمن لا يوثق به لحكم بالجور ، وانتشر الظلم ، وضاعت المصالح ، وكثرت المفاسد ، ولم يشترط بعضهم في الإمامة العظمى العدالة لغلبة الفسوق على ولاتها فلو [ ص: 35 ] اشترطت لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يوثق به من القضاة والسعاة ، وأخذ ما يأخذونه ، وبذل ما يبذلونه ، وفي هذا ضرر عظيم أقبح من فوات عدالة السلطان ، ولما كان تصرف القضاة أعم من تصرف الأوصياء ، وأخص من تصرف الأئمة اختلف في إلحاقهم بهم أو بالأوصياء على الخلاف في عدالة الوصي ، وإذا نفذت تصرفات البغاة بالإجماع مع القطع بعدم ولايتهم فأولى نفوذ تصرفات الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم مع قدرة البغاة وعموم الضرورة للولاة ، وأما محل الحاجات كإمامة الصلاة فإن الأئمة شفعاء .

والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع عند المشفوع عنده ، وإلا لا تقبل شفاعته فيشترط فيهم العدالة ، وكذلك المؤذنون الذين يعتمد على أقوالهم في دخول الأوقات وإيقاع الصلوات أما من يؤذن لنفسه من غير أن يعتمد على قوله فلا يشترط فيه عدالة كسائر الأذكار ، وتلاوة القرآن فيصح جميع ذلك من البر والفاجر ، وإنما تشترط العدالة لأجل الاعتماد على قوله فقط ، ولم أر في هذا القسم خلافا بخلاف الإمامة اختلف العلماء في اشتراط العدالة فيها فاشترطها مالك وجماعة معه ، ولم يشترطها الشافعي رحمه الله ، والصلاة مقصد والأذان وسيلة والعناية بالمقاصد أولى من الوسائل غير أن الفرق عنده أن الفاسق تصح صلاته في نفسه إجماعا ، وكل مصل يصلي لنفسه عند الشافعي فلم تدعه حاجة لصلاح حال الإمام ومالك يرى أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام ، وأن فسقه يقدح في صحة الربط فهذا منشأ الخلاف .

وأما الأذان فلا خلاف أنه لو كان المؤذن غير موثوق به حتى يؤذن قبل الوقت تعدى خلله للصلاة فإنالصلاة قبل وقتها باطلة ، ولو كان الإمام الفاسق غير متطهر أو أخل بشرط باطن لا يطلع عليه المأموم لم يقدح عنده في صلاة المأموم لأن المأموم حصل ذلك الشرط فلا يقدح عنده تضييع غيره له .

وإن أخل بركن ظاهر كالركوع والسجود ، ونحوهما فالاطلاع عليه ضروري فلا يحتاج إلى العدالة فيه لأن العلم الظاهر ناب عن العدالة في ضبط المصلحة فاستغنى عنها فظهر الفرق بين الإمامة والأذان ، وأما محل التتمات فكالولاية في النكاح فإنها تتمة ، وليست بحاجية بسبب أن الوازع الطبيعي في الشفقة على المولى عليها يمنع من الوقوع في العار ، والسعي في الإضرار فقرب عدم اشتراط العدالة كالإقرارات [ ص: 36 ] لقيام الوازع الطبيعي فيها غير أن الفاسق قد يوالي أهل شيعته فيؤثرهم بولايته كأخته وابنته ، ونحو ذلك فيحصل لها المفسدة العظيمة فاشترطت العدالة ، وكان اشتراطها تتمة لأجل تعارض هاتين الشائبتين ، وهذا التعارض بين هاتين الشائبتين هو سبب الخلاف بين العلماء في اشتراط العدالة في ولاية النكاح ، وهل تصح ولاية الفاسق أم لا ، وفي مذهب مالك قولان ، وكذلك اشتراط العدالة في الأوصياء تتمة لأن الغالب على الإنسان أنه لا يوصي على ذريته إلا من يثق بشفقته فوازعه الطبيعي يحصل مصلحة الوصية غير أنه قد يوالي أهل شيعته من الفسقة فتحصل المفاسد من ولايتهم في المعاملات والتزويج فكان الاشتراط تتمة كما تقدم في ولاية النكاح ، وتعارض الشائبتين هو سبب الخلاف بين العلماء في اشتراط العدالة في الأوصياء .

وأما ما خرج عن الأقسام الثلاثة الضرورة والحاجة والتتمة فالإقرار يصح من البر والفاجر والمسلم والكافر إجماعا لأن الإقرار على خلاف الوازع الطبيعي فإنه إنما يقر على نفسه في ماله أو نفسه أو أعضائه ونحو ذلك ، والطبع يمنع من المسامحة بذلك من غير سبب يقتضيه بل هو مع السبب المقتضي له شأن الطباع جحده فلا يعارض الطبع هنا احتمال موالاته لأهل شيعة فإن الإنسان مطبوع على تقديم نفسه على غيره كان من أهل شيعته وأصدقائه أم لا هذا هو الفرق بين الإقرار وولاية النكاح والوصية

أن الوالي والوصي يتصرفان لغيرهما فأمكن مراعاة الأصدقاء في ذلك لأنه ترجيح لأحد الغيرين على الآخر ، وأما ها هنا فهو ينصرف في الإقرار لنفسه فلا يقدم عليه أحدا ، وهو سبب انعقاد الإجماع في الإقرار دونهما ، ومن هذا القسم الدعاوى تصح من البر والفاجر والمسلم والكافر ، وإن كانت على وفق الطبع فإن المدعي إنما يدعي لنفسه فدعواه على وفق طبعه عكس الأقارير غير أن ها هنا في الدعاوى ما يغني عن العدالة ، ويقوم مقامها في حق المدعي ، وهو إلزامه على وفق دعواه أو اليمين مع شاهد أو مع نكول على الخلاف في صحة القضاء بالشاهد واليمين والنكول لأنهما يبعدان التهمة من الدعوى ، وبقربانها من الصحة فقام ذلك مقام العدالة لرجحان الصدق على الكذب حينئذ كما ترجح بالعدالة .

وقس على هذه النظائر في هذه الأقسام الأربعة ما هو في معناه فيحصل لك الفرق بين ما يشترط فيه العدالة وبين ما لا يشترط فيه [ ص: 37 ]

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق العشرون والمائتان بين قاعدة ما يشترط فيه العدالة وبين قاعدة ما لا تشترط فيه العدالة ) وهو مبني على القاعدة الأصولية ، وهي أن المصالح التي منها اشتراط العدالة في التصرفات لحصول الضبط بها ضرورة أنه لا انضباط [ ص: 68 ] مع الفسقة ، ومن لا يوثق به أربعة أقسام :

( القسم الأول ) أن تكون في محل الضروريات فينعقد الإجماع اشتراطها فيه ، ولهذا هنا نظائر ( منها ) الشهادات فإن الضرورة تدعو لحفظ دماء الناس وأموالهم وأبضاعهم وأعراضهم عن الضياع فلو قبل فيها قول الفسقة ومن لا يوثق به لضاعت هذه الأمور .

وقد تقدم أنها مما أجمعت الأمم مع الأمة المحمدية على وجوب حفظه ( ومنها ) الولايات كالإمامة والقضاء وأمانة الحكم فإن هذه الولايات وغيرها مما في معنى هذه لو فوضت لمن لا يوثق به لحكم بالجور ، وانتشر الظلم ، وضاعت المصالح ، وكثرت المفاسد ، نعم لم يشترط بعضهم في الإمامة العظمى العدالة لغلبة الفسوق على ولاتها فلو اشترطت لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يوثق به من القضاة والسعاة ، وأخذ ما يأخذونه ، وبذل ما يبذلونه ، وفي هذا ضرر عظيم فلذا أفسح من فوات عدالة السلطان ، ولما كان تصرف القضاة أعم من تصرف الأوصياء ، وأخص من تصرف الأئمة اختلف في إلحاقهم بالأئمة أو بالأوصياء فيجري فيهم الخلاف في عدالة الوصي ، وإذا نفذت تصرفات القضاة بالإجماع مع القطع بعدم ولايتهم فأولى نفوذ تصرفات الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم ، ومع قدرة البغاة وعموم الضرورة للولاة .

( القسم الثاني ) أن تكون في محل الحاجيات فيجري الخلاف في اشتراطها نظرا لداعية الحاجة أو عدم اشتراطها نظرا لما يعارض داعيتها إن كان ، ولهذا هنا نظائر منها إمامة الصلاة فإن الأئمة شفعاء ، والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع عند المشفوع عنده ، وإلا لا تقبل شفاعته فيشترط فيهم العدالة لكن عند مالك وجماعة معه نظرا لما ذكر ، وأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام ، وأن فسقه يقدح في صحة الربط ، ولم يشترطها الشافعي رحمه الله نظرا إلى أن الفاسق تصح صلاته في نفسه إجماعا ، وكل مصل يصلي لنفسه عنده فلم تدعه حاجة لصلاح حال الإمام .

( ومنها ) المؤذنون الذين يعتمد على أقوالهم في دخول الأوقات وإيقاع الصلوات فإن حاجة الاعتماد على قول المؤذن فقط تدعو إلى اشتراط عدالته إذ لو كان المؤذن غير موثوق به حتى يؤذن قبل الوقت لتعدى خلله للصلاة فإن الصلاة قبل وقتها باطلة فلذا لم يختلف العلماء في اشتراط العدالة في الأذان ، وهو وسيلة ، واختلفوا في إمامة الصلاة ، وهي مقصد ، والعناية بالمقاصد أولى من الوسائل لأنه لو كان الإمام الفاسق غير متطهر ، وأخل بشرط باطن لا يطلع عليه المأموم لم يقدح عنده في صلاة المأموم لأن المأموم حصل ذلك الشرط فلا [ ص: 69 ] يقدح عنده تضييع غيره له ، وإن أخل بركن ظاهر كالركوع والسجود ، ونحوهما فالاطلاع عليه ضروري فلا يحتاج إلى العدالة فيه لأن العلم الظاهر ناب عن العدالة في ضبط المصلحة فاستغنى عنها فظهر الفرق بين الإمامة والأذان ، وأما من يؤذن لنفسه من غير أن يعتمد على قوله فلا يشترط فيه عدالة كسائر الأذكار وتلاوة القرآن فإن جميع ذلك يصح من البر والفاجر .

( القسم الثالث ) أن تكون في محل التتمات فيجري الخلاف في اشتراطها وعدم اشتراطها لتعارض شائبتين فيه ، ولهذا نظائر هنا أيضا منها الولاية في النكاح فإنها تتمة ، وليست بحاجية بسبب أن الوازع الطبيعي في الشفقة على المولى عليها يمنع من الوقوع في العار ، ومن السعي في الإضرار فقرب ذلك عدم اشتراط العدالة فيها كالإقرارات لقيام الوازع الطبيعي فيها إلا أن الفاسق لما كان قد يوالي أهل شيعته فيؤثرهم بتوليته كأخته وابنته ، ونحو ذلك فيحصل لها المفسدة العظيمة فاشترطت العدالة تتمة لأجل تعارض هاتين الشائبتين ، ولهذا التعارض وقع الخلاف بين العلماء في اشتراط العدالة في ولاية النكاح ، وهل تصح ولاية الفاسق أم لا ، وفي مذهب مالك قولان ، ومنها الأوصياء لأن الغالب على الإنسان أنه لا يوصي على ذريته إلا من يثق بشفقته فوازعه الطبيعي يحصل مصلحة الوصية إلا أنه لما كان قد يولي أهل شيعته من الفسقة فتحصل المفاسد من ولايتهم في المعاملات والتزويج تعارضت هاتان الشائبتان فكان تعارضهما سببا في كون اشتراط العدالة في الأوصياء تتمة كما تقدم في ولاية النكاح ، وفي الخلاف بين العلماء في اشتراط العدالة في الأوصياء

( القسم الرابع ) أن تكون فيما خرج عن الأقسام الثلاثة الضرورة ، والحاجة والتتمة فينعقد الإجماع على عدم اشتراطها فيه ، ولذلك نظائر هنا ( منها ) الإقرار لأنه على خلاف الوازع الطبيعي فإنه إنما يقر على نفسه في ماله أو نفسه أو أعضائه أو نحو ذلك ، والطبع يمنع من المسامحة بذلك من غير سبب يقتضيه بل هو مع السبب المقتضي له شأن الطباع جحده فلا يعارض الطبع هنا موالاته لأهل شيعته فإن الإنسان مطبوع على تقديم نفسه على غيره كان من أهل شيعته وأصدقائه أم لا فلذا انعقد الإجماع على عدم اشتراطها فيه ، ولم ينعقد في ولاية النكاح والوصية لما علمت من أن الولي والوصي يتصرفان لغيرهما فيمكن فيهما مراعاة الأصدقاء في ذلك على غيرهم لأنه ترجيح لأحد الغيرين على الآخر .

( ومنها ) الدعاوى فإن المدعي ، وإن كان إنما يدعي لنفسه فدعواه على ، وفق طبعه عكس الأقارير إلا أن إلزامه البينة [ ص: 70 ] على وفق دعواه أو اليمين مع شاهد أو مع نكول على الخلاف في صحة القضاء بالشاهد مع اليمين أو النكول لأنهما يبعدان التهمة عن الدعوى ، ويقر بأنها من الصحة قائم مقام العدالة لرجحان الصدق على الكذب حينئذ كما ترجح بالعدالة ، وقس على هذه النظائر في هذه الأقسام الأربعة ما هو في معناها فيحصل لك الفرق بين ما يشترط فيه العدالة إجماعا إذا كان من الضرورة أو على الخلاف إذا كان من الحاجة وثم معارض ، وإلا فلا خلاف أو كان من التتمة لتعارض الشائبين فيه وبين ما لا يشترط فيه العدالة إذا كان مما خرج عن الثلاثة كما في الأصل ، وسلمه أبو القاسم بن الشاط ، والله أعلم .

( تنبيهان الأول ) قال العلامة الشربيني عند قوله في جمع الجوامع ، وليس منه أي من المرسل أي المطلق عن الاعتبار والإلغاء المعبر عنه بالمصلحة المرسلة مصلحة ضرورية كلية قطعية لأنها مما دل الدليل على اعتبارها فهي حق قطعا ، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به قال ، والظن القريب من القطع كالقطع ا هـ .

ما خلاصته نقلا عن السعد في التلويح أن الإمام الغزالي قسم المصالح إلى ثلاثة أقسام : ( القسم الأول ) ما شهد الشرع باعتباره ، وهي أصل في القياس وحجة ، وهي المحافظة على مقصود الشرع من المحافظة على الخمسة الضرورية أي التي هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال فكل ما يتضمن حفظ هذه الخمسة الضرورية ، وكل ما يقويها فهي مصلحة ، ودفعها مفسدة ، وإذا أطلقنا المعين المخيل ، والمناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس .

( القسم الثاني ) ما شهد الشرع ببطلانه كنفي الصوم في كفارة الملك أي السلطان . ( القسم الثالث ) ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالبطلان ، وهذا في محل النظر ، وهي المصالح الحاجية والتحسينية فلا يجوز الحكم بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي ، وإذا اعتضد بأصل فهو قياس ا هـ .

وما مشي عليه في هذا القسم المسمى بالمرسل ، وبالمصلحة المرسلة هو أحد أقوال ذكرها الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الاعتصام ، وعزى هذا القول إلى القاضي وطائفة من الأصوليين . ( والثاني ) وهو اعتبار ذلك وبناء الأحكام عليه على الإطلاق لمالك ( والثالث ) وهو اعتبار ذلك بشرط قربه من معاني الأصول للشافعي ، ومعظم الحنفية قال هذا ما حكى الإمام الجويني ا هـ .

ومن نظائر هذا القسم رمي بعض المسلمين من السفينة في البحر لنجاة الباقين فعند أصحابنا يقرع بينهم من [ ص: 71 ] غير تفرقة بين الحر والرقيق لأجل نجاة الباقين لكن بعد رمي الأموال غير الرقيق ، وقال المحلي لا يجوز رمي البعض بالقرعة لأن القرعة لا أصل لها في الشرع في ذلك لأن نجاة الباقين ليس كليا أي متعلقا بكل الأمة ا هـ .

وفي العطار عليه ذكر الصلاح الصفدي أن مركبا كان في البحر وفيه مسلمون وكفار فأشرفوا على الغرق ، وأرادوا ليرموا بعضهم إلى البحر لتخف المركب ، وينجو الباقي فقالوا نقترع ، ومن وقعت عليه القرعة ألقيناه فقال الريس نعد الجماعة فكل من كان تاسعا في العدد ألقيناه فارتضوا بذلك فلم يزل يعدهم ، ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار أجمعين ، وسلم المسلمون ، وكان وضعهم على هيئة مخصوصة بأن وضع أربعة مسلمين ، وخمسة كفارا ثم مسلمين ثم كافرا إلى آخر ذلك ، ووضع لهم ضابطا ، وهو قول بعضهم :

الله يقضي بكل يسر ويرزق الضعيف حيث كانا

فمهمل الحروف للمسلمين ومعجمها للكفار ، والابتداء بالمسلمين ، والسير إلى جهة الشمال بالعدد فتأمل ذلك ، وفيه أيضا قبل ذلك عن اللغز ، والصحيح أن الاستدلال بالمرسل في الشرع لا يتصور حتى يتكلم فيه بنفي أو إثبات إذ الوقائع لا حصر لها ، وكذا المصالح ، وما من مسألة تعرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى فإن الدين قد كمل .

وقد استأثر الله برسوله ، وانقطع الوحي ، ولم يكن ذلك إلا بعد كمال الدين قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } والذي يدل على عدم تصوره أن أحكام الشرع تنقسم إلى مواقع التعبدات ، والمتبع فيها النصوص وما في معناها وما لم ترشد النصوص إليه فلا تعبد به .

وإلى ما ليس من التعبدات ، وهو ينقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ كالأيمان والمعاملات والطلاق ؛ وقد أحالها الشرع في موجباتها إلى قضايا العرف فيها بنفي أو إثبات إلا ما استثناه الشارع عليه الصلاة والسلام كالاكتفاء بالعثكال الذي عليه مائة شمروخ إذا حلف أن يضرب مائة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام ولم ينسخ في شرعنا ، وإلى ما يتعلق بغير الألفاظ ، وهو منقسم إلى ما ينضبط في نفسه كالنجاسات والمحظورات وطرق تلقي الملك فهذه الأقسام منضبطة ، ومستنداتها معلومة ، وإلى ما لا ينضبط إلا بالضبط في مقابله كالأشياء الطاهرة ، والأفعال المباحة تنضبط بضبط النجاسة والحظر ، وكذلك الأملاك منتشرة تنضبط بضبط طرق النقل ، والإيذاء محرم على الاسترسال من غير ضبط ، وينضبط بضبط ما استثنى الشرع في مقابلته فالوقائع إن وقعت في جانب الضبط ألحقت به [ ص: 72 ] وإن وقعت في الجانب الآخر ألحقت به ، وإن ترددت بينهما ، وتجاذبها الطرفان ألحقت بأقربهما ، ولا بد وأن يلوح الترجيح لا محالة فخرج منه أن كل مصلحة تتخيل في كل واقعة محبوسة بالأصول المتعارضة لا بد أن تشهد الأصول بردها أو قبولها ا هـ .

وفي التلويح عنه أنه قال وأما المصلحة الضرورية فلا بعد في أن يؤدي إليها رأي مجتهد ، وإن لم يشهد له أصل معين ، ولها نظائر منها رمي الكفار المتترسين بأسرى المسلمين في الحرب المؤدي إلى قتل الترس معهم إذا قطع أو ظن ظنا قريبا من القطع بأنهم إن لم يرموا استأصلوا المسلمين بالقتل الترس ، وغيره ، وإن رموا سلم غير الترس فيجوز رميهم لحفظ باقي الأمة فإنا نعلم قطعا بأدلة خارجة عن الحصر أن تعليل القتل مقصود للشارع كمنعه بالكلية لكن قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معنا ، ونحن إنما نجوز عند القطع أو ظن قريب من القطع ، وبهذا الاعتبار تخصص الحكم من العمومات الواردة في المنع عن القتل بغير حق لما نعلم قطعا أن الشرع يؤثر الحكم الكلي على الجزئي ، وأن حفظ أصل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد ، وهذا ، وإن سميناه مصلحة مرسلة لكنها راجعة إلى الأصول الأربعة لأن مرجح المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع ، ولأن كون هذه المعاني عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات سميناها مصلحة مرسلة لا قياسا إذ القياس أصل معين . ا هـ

بتوضيح من المحلي قال الشربيني فعلم من قوله : ونحن إنما نجوزه إلخ أنه هو لا يقول به أي المرسل عند فقد الشروط أما غيره فيجوز أن يقول به عند الفقد كما يؤخذ من قوله قبل ذلك فلا بعد في أن يؤدي إليها رأي مجتهد ، ومن قوله ، ولأن كون هذه المعاني إلخ أنه إنما جعل هذه من المصالح المرسلة لعدم تعين الدليل ، وإن رجعت إلى الأصول الأربعة لا لعدم الدليل كما في غيرهما من المصالح المرسلة فإطلاق المرسل عليها بطريق المشابهة في عدم تعين الدليل ، وإن كان في غيرها لا لعدمه فليتأمل ا هـ .

وفي حاشية العطار عنه في المنخول أنه ذكر من نظائرها أنا لو فرضنا انقلاب أموال العالم بجملتها محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه الغصوب بغيرها عسر الوصول إلى الحلال المحض .

وقد وقع فنبيح لكل محتاج أن يأخذ مقدار كفايته من كل مال لأن تحريم التناول يفضي إلى الهلاك ، وتخصيصه بمقدار سد الرمق يكف الناس عن معاملاتهم الدينية والدنيوية ، ويتداعى ذلك إلى فساد الدنيا وخراب [ ص: 73 ] العالم فلا يتفرغون ، وهم على حالتهم مشرفون على الموت إلى صناعتهم ، وأشغالهم ، والشرع لا يرضى بمثله قطعا فنبيح لكل غني من ماله مقدار كفايته من غير سرف ولا اقتصار على سد الرمق ، ونبيح لكل مقتر في مال من فضل منه هذا القدر مثله ، ويشهد له قاعدة ، وهو أن الشخص الواحد إذا اضطر إلى طعام غيره أو إلى ميتة يباح له مقدار الاستقلال محافظة على الروح فالمحافظة على الأرواح أولى وأحق ا هـ .

قال العطار .

وقول الغزالي ، وقد وقع أي هذا حصل في عصره ، وأما العصر الذي نحن فيه الآن فالحال أقوى وأشد نسأل الله العافية والسلامة فالتمسك بما قاله الغزالي فيه أحرى سيما وقد ذكر صاحب جمع الجوامع في كتابه توشيح الترشيح كلاما يقرب مما قاله الغزالي حيث نقل عن والده الإمام تقي الدين السبكي في ذكر المسائل التي انفرد بها ، واستخرجها قال : من جاءه شيء من المال ، وهو غير مشرف ، ولا سائل يأخذه حراما كان أم حلالا ثم إن كان حلالا لا تبعة فيه تموله ، وإلا رده في مرده إن عرف مستحقه ، وإلا فهو كالمال الضائع قال وهذا هو ظاهر الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم { ما أتاك من هذا المال ، وأنت غير مشرف ، ولا سائل فخذه ، وإلا فلا تتبعه نفسك } قال ، وليس في قوله صلى الله عليه وسلم هذا ما يدفع ما نقوله لأنا على القطع بأنه لم يعن خصوص ذلك المال الذي دفعه هو صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا أعم منه من كل حلال أو الأعم مطلقا من كل مال قال وهذا هو الراجح المتبادر إلى الذهن ا هـ .

المراد ، وفي حاشية كنون على عبق وبنان أول باب البيوع قال القلشاني اختلف في تعريف الحلال فقيل هو ما لم يعرف أنه حرام ، وقيل ما عرف أصله ، والأول أرفق بالناس لا سيما في هذا الزمان قال بعض الأئمة وعندي في هذا الزمان أن من أخذ قدر الضرورة لنفسه وعياله من غير سرف ، ولا زيادة على ما يحتاج إليه لم يأكل حراما ، ولا شبهة ، وقد قال القاسم بن محمد لو كانت الدنيا حراما لما كان لك بد من العيش ألا ترى أنه يحل أكل الميتة ومال الغير للمضطر فما ظنك بما ظاهره الإباحة هذا مما لا يكاد يختلف فيه ، والحاصل أنه يطلب الأشبه فالأشبه بحسب الإمكان ا هـ .

ومراده ببعض الأئمة الفاكهاني كما في ابن ناجي ا هـ .

المراد وفيه غير ذلك فانظره ، وأما القسم الثاني في كلام الغزالي ، وهو ما شهد الشرع ببطلانه فهو الغريب لبعده عن الاعتبار كما في المحلي ، وإلى تمثيل الغزالي له بقوله كنفي الصوم إلخ يشير إلى قول أبي إسحاق الشاطبي في كتابه الاعتصام حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء ، وشاورهم في مسألة نزلت به فذكر لهم عن نفسه أنه [ ص: 74 ] عمد إلى إحدى كرائمه أي عقائل نسائه الحرائر ووطئها في رمضان فأفتوا بالإطعام وإسحاق بن إبراهيم ساكن فقال له أمير المؤمنين ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه فقال له لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام فقيل له أليس مذهب مالك الإطعام فقال لهم تحفظون مذهبه إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له إنما هو بيت مال المسلمين فأخذ بقوله أمير المؤمنين ، وشكر له عليه ا هـ وهو صحيح ا هـ .

أي لأن إفتاءه بغير الصوم مع ذلك مما شهد الشرع ببطلانه كما أن إفتاءه بالصوم نظرا إلى أنه يرتدع به إذ يسهل بذل المال في شهوة الفرج كذلك مما شهد الشرع ببطلانه كما في المحلي قال أبو إسحاق الشاطبي أيضا حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته فقال يحيى أي ابن يحيى المغربي الأندلسي تصوم شهرين متتابعين ، ولما سئل عن حكمة مخالفته لإمام مذهبه الإمام مالك ، وهو التخيير بين العتق والصيام والإطعام فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ، ويعتق فحملته على أصعب الأمور عليه ، وهو الصوم قال أبو إسحاق فإن صح هذا عن يحيى رحمه الله ، وكان كلامه على ظاهره كان مخالفا للإجماع ا هـ .

نعم قال القرافي إفتاء يحيى له بالصوم هو الأوفق بكون مشروعية الكفارات للزجر ، ولم يفته يحيى على أنه أمر لا يجوز غيره ا هـ .

أي حتى يكون مخالفا للإجماع فاحتفظ على هذا التحقيق .

( التنبيه الثاني ) نظم الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي نظائر الصلاة التي تفسد على الإمام دون المأموم بقوله :

وأي صلاة للإمام فسادها تبين فالمأموم في ذاك تابع
سوى عدة ساوت كواكب يوسف وها أنا مبديها إليك وجامع
ففي حدث ينسي الإمام وسبقه وقهقهة والخوف في العد رابع
وإعلام مأموم يفوز إمامه بتنجيسه والبعض فيه منازع
وقطع إمام حين كشف لعورة على ما لسحنون وقد قيل واسع
ومستخلف لفظا لغير ضرورة لأجل رعاف وهي في العد سابع
ومستخلف بالفتح لم ينو ثم من بتسليمه فات التدارك تابع
وتارك قبلي الثلاث وطال إن همو فعلوا لكن به الخلف واقع
ومنحرف لا يستجاز انحرافه وهذا غريب بالتمتمة طالع
وذا في صلاة ما الجماعة شرطها وإلا فبطلان على الكل شائع

والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية