الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 337 ] الباب الثالث : في العموم

                        وفيه ثلاثون مسألة

                        المسألة الأولى : في حده

                        وهو في اللغة : شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظا أو غيره ، ومنه قولهم : عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم .

                        وأما حده في الاصطلاح : فقال في المحصول : هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد ، كقوله " الرجال " فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ، ولا تدخل عليه النكرات ، كقولهم " رجل " لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ، ولا يستغرقهم ، ولا التثنية ، ولا الجمع ; لأن لفظ " رجلان " و " رجال " يصلح لكل اثنين وثلاثة ، ولا يفيدان الاستغراق ، ولا ألفاظ العدد كقولنا : خمسة ; لأنه يصلح لكل خمسة ، ولا يستغرقه . وقولنا : بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك ، والذي له حقيقة ومجاز ، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا . انتهى .

                        وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري ، فقال : العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له .

                        ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد ، واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد " بوضع واحد " ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما ; لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده ، وهو معنى الاستغراق .

                        ودفع بمثل ما ذكره في المحصول .

                        وقال أبو علي الطبري : هو مساواة بعض ما تناوله البعض .

                        [ ص: 338 ] واعترض عليه بلفظ التثنية فإن أحدهما مساو للآخر وليس بعام ، وقال القفال الشاشي : أقل العموم شيئان كما أن الخصوص واحد ، وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي ، وهو الشمول ، والشمول حاصل في التثنية ، وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عموما ، لا سيما إذا قلنا : أقل الجمع ثلاثة ، فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع فسلب العموم عنها أولى .

                        وقال المازري : العموم عند أئمة الأصول : هو القول المشتمل على شيئين فصاعدا ، والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع ، والشمول الذي لا يتصور في الواحد ، ولا يخفى ما يرد عليه .

                        وقال الغزالي : هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا .

                        واعترض عليه : أنه ليس بجامع ، ولا مانع .

                        أما كونه ليس بجامع ; فلخروج لفظ المعدوم والمستحيل ، فإنه عام ومدلوله ليس بشيء ، وأيضا الموصولات مع صلاتها من جملة العام ، وليست بلفظ واحد .

                        وأما أنه ليس بمانع ; فلأن كل مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام ، وكذلك كل جمع لمعهود ، وليس بعام .

                        وقد أجيب عن الأول : بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة ، وإن لم يكن شيئا في الاصطلاح .

                        وعن الثاني : بأن الموصولات هي التي ثبت لها العموم .

                        وقال ابن فورك : اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق ، وليس كذلك ; لأن الاستغراق عموم وما دونه عموم ، وأقل العموم اثنان .

                        وقال ابن الحاجب : إن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة ، فقوله : ( ما دل ) جنس وقوله : ( على مسميات ) يخرج نحو زيد ، وقوله : ( باعتبار أمر اشتركت فيه ) يخرج نحو ( عشرة ) فإن العشرة دلت على آحاد ، لا باعتبار أمر اشتركت فيه ; لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها ، فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة ، وقوله ( مطلقا ) ليخرج المعهود ، فإنه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين ، وقوله ( ضربة ) أي دفعة واحدة ، ليخرج نحو ( رجل ) [ ص: 339 ] مما يدل على مفرداته بدلا لا شمولا .

                        ويرد عليه : خروج نحو " علماء البلد " مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه مع أنه عام قصد به الاستغراق ، ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف لقيد الإطلاق ، مع أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه .

                        وأجيب : بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقا ، لا العلماء ، وعالم البلد لم يتقيد بقيد ، وإنما قيد العلماء ، فأورد عليه أيضا أنه قد اعتبر الإفراد في العام ، وعلماء البلد مركب .

                        وأجيب : بأن العام إنما هو المضاف من حيث أنه مضاف إليه خارج .

                        وأورد عليه الجمع المنكر ، كرجال . فإنه يدل على مسميات ، وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه ، وهو مفهوم رجل مطلقا لعدم العهد ، وليس بعام عند من يشترط الاستغراق .

                        وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقا ، مفردا كان أو جمعا أن دلالته على الفرد تضمينه ، إذ ليس الفرد مدلولا مطابقيا ; لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به ، ولا خارجا ، ولا لازما ، ولا يمكن جعله - أي الفرد - مما يصدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في اصطلاح العلماء ، وليس مما يصدق على إفراده بدلا ، بل شمولا ، ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي .

                        وأجيب : بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزوما لغويا لا عقليا ، وأن ذلك مما يكفي في الرسوم وفيه نظر .

                        وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا عن صاحب المحصول ، لكن مع زيادة قيد " دفعة " ، فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية