الحجّ منافعه وآثاره

27/09/2012| إسلام ويب

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حق نلقى الله تعالى بها، ونشهد أنه هو إلهنا وربنا وخالقنا، وأنه تعبّدنا وفرض علينا أن نعبده، ونحمده ونشكره، ونذكره ونعترف له بالفضل والامتنان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، ونشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وبيّن للأمة ما تحتاج إليه، فبين لهم أحكام عباداتهم، وبلغ ما أرسل به، واستشهد أصحابه رضي الله عنهم في حجة الوداع بقوله: (ألا هل بلغت، فقالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت) رواه أبو داود وابن ماجه.
فشهدوا له بالبيان والبلاغ والنصح، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واتبع طريقه. أما بعد: أيها الأخوة... وأيها الشباب :

إننا جميعا نرجو - إن شاء الله - أن نكون من المتحابين في الله، والمتزاورين في الله، والمتجالسين والمتعارفين في الله، الذين يغبطهم أولياء الله على ما بينهم من المحبة والمودة، التي لم يكن الباعث لها مجرد المعرفة أو الصلة أو الصداقة، ولكن الباعث لها هو المحبة في الله والمحبة لله.  المحبة التي حمل عليها دين الإسلام، الذي هو عبادة الله وحده، فنحب الله تعالى، ونحب كل من يحب الله، ونحب أهل طاعته سبحانه وتعالى. وإن هذه المحبة في ذات الله تقتضي النصيحة والبيان، والإرشاد والتوجيه، فكل من أحب أخاه، نصحه ووجهه، ودله على طرق الخير، ولا شك أن من جملة ذلك أمور العبادة التي نحن متعبّدون بها.
ولعل من أهمها وأجلها أداء مناسك حج بيت الله الحرام، وبمناسبة أننا في أشهر الحج، التي ذكرها الله في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة:197)، وقد بين العلماء هذه الأشهر فقالوا بأنها شهران وعشرة أيام، وهذه الأشهر هي التي يشرع للحاج الإحرام والحج فيها، ومن المناسب أن نذكر شيئا من منافع هذا الحج، ومن منافع هذه المناسك التي يُحْرِم بها المسلمون، ويتقربون بها إلى الله، والتي بينها نبينا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال: (خذوا عني مناسككم) رواه البيهقي في "سننه".

ولا شك أن هذا الحج الذي هو عبارة عن الإحرام والطواف والسعي وما يتصل به، هو أعمال بدنية، وأعمال قولية، وأعمال مالية.
وهذه الأعمال ونحوها ما شُرِعت إلا لعبادة الله، وما شرعت إلا للتزود من معرفة الله سبحانه وتعالى، وما شرعت أيضا إلا لمنافع عظيمة تفوق العدّ والحساب؛ ولأجل ذلك ذكر العلماء أن فيها منافع، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (الحج:27-28)، وقد بحث العلماء عن هذه المنافع فقالوا: لا بد أن تكون هناك منافع متعددة.
ولا شك أن أعظم المنافع كون العبد يتقرب إلى الله تعالى بهذه القربة وبهذا المنسك، ويطلب من الله تعالى الثواب والأجر، ويطلب منه أن يضاعف له أجره على ما يتجشم من مشقة وتعب ونصب، فذلك منفعة عظيمة؛ حيث أنه يترتب على ذلك ثواب عظيم.

وقد عدّد العلماء للحج منافع عدة: بدنية، ومالية، وثقافية، واجتماعية، وعلمية، ولا بد أن تجتمع هذه المنافع كلها في هذه المناسك، ولا بد أن يشعر بها من كان حقا من أهل المعرفة ومن أهل التأثر.ولأهمية معرفة منافع الحج، والحكمة التي شرع من أجلها، فإننا نحب أن نذكر شيئا من هذه المنافع، علَّ الله أن ينفع بها، نسأل الله أن يكتبها في ميزان أعمالنا إنه سميع مجيب، ونسأله تعالى أن يزيدنا من معرفته، ومعرفة أحكام عبادته، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

«أولاً: منـافع السَّفَر»:

المسلم الذي يتجشم المشقة، ويأتي من مكان بعيد، ربما يسافر ثلاثة أشهر، وربما نصف سنة، وربما يغيب عن أهله سنة كاملة، كل ذلك لأجل أن يؤدي هذا الحج! فما الذي يحمله على ذلك؟ يترجح أن الحامل له شعوره بحق الله عليه، وشعوره بأن ربه أحب منه هذا الأمر - الذي هو التجشم - وهذا السفر؛ فهذا لا شك أن فيه نية خالصة تدفع العبد إلى أن يصبر على الصعوبات، وأن يصبر على المشقات وأن يستسهل الصعاب:

         لأستسـهلنَّ الصعـب أو أدرك الـمنى * * * فمـا انقـادت الآمـال إلا لصــابر

فيستسهلون الصعاب، ويبذلون أوقاتهم وأموالهم في تذليل تلك الصعاب؛ حتى يحصلوا على مطلبهم.
ولا شك أن الإنسان عندما يسافر مسيرة شهر أو نصف شهر أو يوما أو أياما، لا شك أنه يلاقي هذه المشقات، وهذه الصعوبات، ولا شك أنها تمرن نفسه وتدربه على أن يصبر على الصعوبات والمشقات التي قد يلاقيها في حياته، وهذه منفعة من المنافع، وهي تمرين النفس على هذه الصعوبات والمشقات كالرفع والحطِّ والنزول والركوب والمشي والجلوس والنوم, وما أشبه ذلك.

كذلك فإنك لا شك تمر بديار لم تسمع بها أو لم ترها؛ فتأخذ منها عبرة، فتنظر إلى هذه البلاد وتتذكر أنه قد مر بها قبلك فلان وفلان، وأنها بلدة العالم فلان أو الأمير فلان، أو نحو ذلك، فتزداد معلوماتك.

وهكذا أيضاً فإنك تمرن نفسك على الجوع والجهد الذي قد تلاقيه في بعض الأحيان؛ فتزداد صبرا وتحملا، كل ذلك بلا شك من آثار الصبر وتحمل المشقات والصعوبات التي يسببها هذا السفر الذي هو سفر الحج.

كذلك أيضا تتدرب على آداب السفر، وللسفر آداب معروفة؛ فتعرف -مثلا- متى تقصر الصلاة، ومتى تجمع، ومتى يباح لك مثلا التيمم عند فقدان الماء أو لا يباح، وأشياء مثل ذلك من المعلومات التي قد تعلمتها ولكن لم تطبقها، فتطبقها في هذا السفر.
ومن منافع السفر صحبة الصالحين الأخيار الذين تجتمع معهم في سيارة كبيرة مثلا أو صغيرة، أو في باخرة، أو في غرفة، أو في خيمة ونحو ذلك، ولا شك أن المسلم يكسب من هذه الصحبة منافع كثيرة، منها : المودة والمعرفة وزيادة المعلومات، فكل ذلك من المنافع التي أخبر بها الله في الحج.

« ثانيًا: مَنَـافِع الإحْرَام »:

عندما يقبل المسلم إلى المواقيت التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم المحيطة بالحرم يعرف أنه قرب من هذا المكان الذي أمر الله تعالى بالتوجه إليه في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27) فإذا أتى وقرب من هذه الأماكن المقدسة استعد لذلك، فأولُ عمل يقوم به هو أن يتجرد من ثيابه المعتادة, ويلبس ثيابا خاصة.
ما هي المنفعة من هذا اللباس الذي يشبه لباس الموتى؟!
من هذه المنافع أنه يتذكر الانتقال من الدنيا! وأنه هكذا يخرج منها. فيخاطب نفسه قائلا : فأنا الآن قد خلعت زينتي، وخلعت لباسي، وجميع ما كنت أتجمل به، وارتديت رداء ألقيته على ظهري، وإزارا سترت به عورتي، فهذا يذكّرني بالحال الأخروية، ويذكّرني بالدار الآخرة، ويذكّرني بالانتقال من الدنيا.
ومن المنافع اتفاق الحجاج كلهم على هذا اللباس، لا فرق بين غنيّهم وفقيرهم! وبين أسودهم وأحمرهم وأبيضهم! وبين صغيرهم وكبيرهم! كل الرجال على حال واحد! لا شك أن ذلك يفيد أن الناس كلهم على حدٍّ سواء، مستوون عند الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنهم في الحق سواء، وأنهم في العبودية سواء.
عند ذلك يشعر الغني أنه مساوٍ لغيره، لا فرق بينه وبين الفقراء، فيحمله ذلك على أن يتعاطف معهم، ويحسن إليهم، ويواسيهم, ويعلم أنه وإياهم أخوة، وأنهم متساوون في حق الله تعالى وفي حق عبادته.
ويحمله ذلك أيضا على أن يتواضع لله ولا يتكبر، ولا يغترَّ بنفسه إذا علم بأن جميع المسلمين على حد سواء في هذه الحال، فيزول ما بين المسلمين من البغضاء.
وَصَفَتِ المودة في قلوبهم واجتمعت كلمتهم, فتآلفوا وتعارفوا وتقاربوا في ذات الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك سببا لتعاونهم التعاون المطلوب؛ الذي هو التعاون على البر والتقوى، والتعاون على تنفيذ حقوق الله، وحدود الله، والتعاون على جبر الضعفاء, وعلى جبر المنكسرين ونحو ذلك. تشاهدهم يوم عرفة على هيئة واحدة, كاشفين رءوسهم, مرتدين هذه الأردية, مؤتزرين بهذه الأزر, كلهم على حد سواء، فتقول: أين الأمير من المأمور؟! أين الغني من الفقير؟! أين الكبير من الصغير؟! لا فرق بينهم.. كلهم على حال واحدة متساوون.
لا شك أن لهذه الحكمة منافع عظيمة, وهي أنهم يتحابون في ذات الله، ويتقاربون، ولا يحتقر بعضهم بعضا، ولا يزدري بعضهم بعضا، ولا يتكبر بعضهم على بعض، بل يكونون جميعا متآلفين ومتحابين في ذات الله سبحانه وتعالى، ولو كان بعضهم أغنى، أو أرفع رتبة، أو أشرف أو أسن، فالفرق بينهم إنما هو بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (الرعد:26).

«ثالثًا: منـافع التّلبية»:

أول شيء يبدأ به الحاج -قبل أن يعقد النية- أن يعزم على أن يدخل في النُّسك الذي يريده، فإذا عزم فإنه يعقد النية ويرفع صوته بالتلبية.
فما المنفعة من هذه التلبية؟ ولماذا شرعت عند الإحرام بالعمرة أو بالحج وجُعلت شعارا للحجاج؟ لا شك أن لهذه التلبية منفعة عظيمة؛ ذلك لأنها إجابة لدعوة الله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام - عندما أمره ربه بهذا النداء بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (الحج:27)، رُوي أنه صعد على جبل أبي قبيس فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فسمعه من هو في أصلاب الرجال، ومن هو في أرحام النساء، فصاروا يأتون قائلين: لبيك، لبيك. أي : نحن مجيبين لدعوتك, ملبين لطلبك، فلا شك أنها إجابة لنداء الله سبحانه وتعالى.
وهذا النداء الذي أمر الله تعالى به، والذي نحن نجيبه بهذه التلبية، لا بد أن يكون له أثر، وهذا الأثر هو أننا نلتزم الإجابة في كل الحالات، ليس في هذه الحالة فقط؛ ذلك لأن الملبي كأنه يعاهد ربه على أن يلتزم بالطاعة مرات متتابعة ولا يخل بها. إذا قال: (لبيك) فمعناها: أنا مجيب لدعوتك، أنا ملازم لطلبك، أنا ملازم لطاعتك، أنا مجيب لك مرة بعد مرة، لا أتخلف عن عبادتك، ولا أتخلف عن طاعتك.
هكذا ذكروا أن هذه فائدة التلبية، ومعناها أن الذي يلبي كأنه يلزم نفسه، كأنه يقول: إني ملتزم بطاعتك يا رب دائما؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز له أن يتخلف عن هذه الطاعة ولا يتركها إلى المعصية، فلا يرجع إلى المعصية لأنه عاهد ربه بهذه التلبية، وأجاب ربه بهذه التلبية التي فيها الالتزام، فلا يجوز له أن يتخلف عنها فيما بعد ويترك الطاعة ويجعل بدلها معصية فيكون قد كذب في قوله: لبيك، ولم يصدق فيما التزم به.

«رابعًا: منـافع محظورات الإحرام»:

معلوم أن المُحْرِم عندما يتلبس بالإحرام يتجنب التنعم والرفاهية، ويتجنب الأشياء التي يتنعم بها قبل الإحرام؛ وذلك دليل على أنه يجب أن يظهر في مظهر المسكنة، وفي مظهر الضعف، وفي مظهر الاستكانة لربه حتى يتقبل منه عبادته.
فمن محظورات الإحرام التي يجب على المحرم تجنبها: تغطية الرأس.
لماذا يكشف المحرم رأسه ولا يغطيه؟ لأن هذا دليل الخشوع، ودليل الذل.
والمنفعة من كشف الرأس هو كونه يشعر بأنه ذليل، لأن ستر الرأس من الجمال، فعادة ما يتجمل الإنسان بستر رأسه، أو يستظل من حرارة الشمس بالعمامة ونحوها، ولكن كونه يكشف رأسه في هذا الإحرام ليشعر بأنه ذليل لربه، وأن هذا غاية الافتقار إليه.
ومن محظورات الإحرام التي يلزم المحرم تركها، الطيب.. فلماذا يتجنب المحرم الطيب فلا يتطيب في بدنه، ولا في لباسه؛ مع أن الطيب شيء محبوب للنفس؟! ذلك ليبعد عنها شهوات النفس. والمنفعة في تجنب الطيب كونه يشعر من نفسه بأنها ذليلة مطيعة، وبأنه فطم نفسه عن ملذات تلذ بها، وشهوات تميل إليها؛ لأجل ذلك يتجنب الطيب.
والنفس إذا أعطيت شهواتها مالت إلى البطالة ومالت إلى المعصية، فإذا فطمت عن شيء من شهواتها وملذاتها استمرت على الطاعة؛ ولذلك يقول بعضهم :

         وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى * * * فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت

فهذا من أسباب كون الإنسان يفطم نفسه عن شيء من ملذاتها؛ فاللباس الجميل من ملذاتها، وتغطية الرأس بالستر الجميل من ملذاتها، واستعمال الطيب الذي له رائحة زكية من ملذاتها؛ كل ذلك يتركه المحرم تعبدا لله سبحانه وتعالى، ليشعر نفسه أنها ذليلة، صغيرة مهينة، فعند ذلك يتواضع لربه، ويخضع له، ويسأله ويكثر من سؤاله، ويرفع إليه أكف الضراعة، ويشعر بحاجته وفاقته إلى ربه بكل حالاته.
كل ذلك من الأسباب والمنافع التي في هذه الأشياء التي يفعلها المحرم.
والمُحْرِم أيضاً يتجنب من المحظورات قص الشعر، وتقليم الأظفار؛ وهذا أيضا مما يتجمل به، فمن المعلوم عادة أنه إذا قلم الإنسان أظفاره وجد لها راحة ولذة، وكذلك إذا طال شعره فقص شيئا من شعر رأسه، أو من شعر وجهه كشارب أو نحوه، وجد لذلك راحة ولذة، ولكن المُحْرِم منهيٌّ عن كل ذلك؛ فمنهي عن أخذ شيء من هذا الشعر، ومن هذا الظفر؛ لأن أخذ ذلك تنعم, فهو يبتعد عن هذا التنعم، وعن الأشياء التي فيها شيء من التنعم والتلذذ؛ حتى يشعر بالفقر وبالفاقة، وبالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى.
والمحرم يتجنب أيضا ما يتعلق بالرفث؛ قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة:197) فيتجنب ما يتعلق بالنساء، فلا يعقد نكاحاً، ولا يخطب ولا يكون وليّا في عقد النكاح، ولا يكون زوجاً يعني في عقد النكاح ولا واسطا. كذلك أيضاً يتجنب شهوات النساء؛ فلا يقبل امرأته، ولا يطؤها ; بل إن ذلك يفسد نُسُكَه.
لماذا مُنِع المُحْرِم من ذلك؟! لأن هذه مما تميل إليها النفس وتشتهيها؛ فإذا تركها لله سبحانه وتعالى شعرت نفسه بالصغار، وشعرت نفسه بالانكسار، ومتى انكسرت نفسه، وانكسر قلبه، وتواضع لربه، أجاب الله تعالى دعوته التي يدعو بها في مناسكه.
ولذلك ورد في الحديث القدسي أن الله يقول : أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي فانكسار القلب، وانكسار الرأس، وتواضع النفس من أسبابه البعد عن المرفهات، والبعد عن الشهوات: شهوات النفس، وشهوات البطن، وشهوات الفرج، وشهوات العين، وشهوات الأذن.
فلأجل ذلك الحاج والمحرم يغض بصره؛ فلا ينظر إلى العورات، ولا إلى الشهوات التي تشغله، وكذلك يحفظ سمعه؛ فلا يستمع إلى الأغنيات، ولا إلى المطربات، وكذلك يحفظ لسانه؛ فلا يتكلم إلا بالكلام الحسن الذي هو ذكر وطاعة، ولا يتكلم باللغو ولا بالرفث الذي هو الساقط من القول، كل ذلك لترويض النفس على العبادة وتهذيبها على الطاعة وتحبيب العبادة إليها بحيث إن العبادة تكون لذيذة مشتهاة عنده، ولا يركن إلى شيء من الشهوات ولا يميل إليها.
هذا كله من أسباب كون المحرم يتجنب هذه المشتهيات وهذه الملذات ونحوها، فنعرف بذلك أن الله سبحانه ما شرع هذه المناسك إلا لمنافع عظيمة، وفوائد جمة.

«خامسًا: منـافع الطّواف»:

إن هناك منافع عظيمة في أعمال الحج التي يعملها الحاج، من حين أن يحرم إلى أن يأتي على آخر نسك من مناسك الحج، لكل منها منفعة عظيمة، لو تأملها الإنسان لعرف حكمة الله تعالى، وأنه الذي يضع الأشياء موضعها اللائق بها.
ومن الأعمال التي يقوم بها الحاج - أول ما يدخل مكة - هو تحية الحرم، أو تحية مكة وهي : الطواف، الذي جعله الله تعالى خاصا ببيته العتيق.
ولا شك أن في الطواف منافع دينية، وإن كان العلماء أطالوا في منافعه البدنية الرياضية، وتنشيط البدن وتقويته وما إلى ذلك، مثل ترويض النفس على الصبر، وعلى التحمل وعلى الزحام، وعلى المشقة، وعلى طول القيام، أو طول المسير، وما أشبه ذلك مما ذكروه من منافع بدنية.
ولكن القصد الأكمل والأولى أن تكون المنفعة منفعة دينية، فإنها هي المنفعة المطلوبة، والله تعالى إنما شرع عباداته كلها لأجل المنافع الأخروية، وإن كانت المنافع الدنيوية أو البدنية تابعة لها، فهي غير مقصودة.
ومعلوم أن العبادات مبنية على التوقيف، ومقتصر فيها على ما دلنا عليها كتاب الله تعالى، وعلى ما بينه لنا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك نلتمس الحكم والمصالح في كل أمر، وفي كل فعل شرعه الله، كما التمس ذلك العلماء من قبلنا، فإن لم نجد قلنا : هذا تعبّد مما أمرنا به، والتعبّد هو التقرب إلى الله تعالى بجنس العبادة -وإن كنا لا نفهم الحكمة فيها- والزيادة في العبادة أمر وارد.
فقد ورد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزيدون في تلبيتهم, فيقولون: لبيك حقا حقا، تعبّدا ورقًّا. فجعلوا من التلبية والإحرام تعبداً أي، : تذللاً ورقاً لله سبحانه وتعالى، فهناك عبادات تعبدية لم تعرف الحكمة من مشروعيتها.

فإذا قال قائل: لماذا خُصَّت الكعبة بأن يطاف بها، فالكعبة بناية كسائر البنايات، فهي مبنية من حجارة، ومن طين ونحو ذلك، ومكسية بهذه الكسوة، فلماذا تميزت بأنها تستقبل في الصلوات؟ ولماذا تميزت أيضا بأنها يطاف بها هذا الطواف؟ وتُستلم الأركان التي في الجهات الجنوبية؟
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكيم في أمره، فقد شرع في المناسك الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وكذلك أمر بتكميل المناسك بقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (البقرة:198) وأمر بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (البقرة:203).
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه المناسك لأمته، فوقف بعرفات وأفاض إلى مزدلفة وبات بمنى أربعة أيام: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وشرع لهم رمي الجمار كل ذلك ليبين للناس مناسكهم، وهكذا أيضاً خطب بعرفة وخطب يوم العيد، وخطب في اليوم الأول من أيام التشريق، وشرع لهم طواف الوداع. كل ذلك ليعلِّم الناس مناسكهم وهو يقول: (خذوا عني مناسككم) رواه البيهقي في "سننه".
وكل عمل من هذه الأعمال فيه منفعة ومصلحة عظيمة للأمة، وأن المسلم يفعلها على أنها قربة وعبادة؛ فإذا تقرب إلى الله تعالى بالطواف بالبيت، شعر أنه يعظم ربه؛ وذلك لأن البيت بيت الله سبحانه، ويشعر حين يطوف بالبيت أن البيت بيت الله, وأن الله هو الذي أمر بهذا الطواف؛ ولأجل ذلك لا يذكر إلا ربه في هذا، فإذا تكلم تكلم بكلام حسن، وصان سمعه, وصان نطقه، فلا ينطق بسباب ولا بفحش ونحو ذلك؛ احتراما لهذا البيت، واحتراما لهذه البقعة.

ومن منافع الطواف العظيمة، تعظيم حرمات الله سبحانه؛ يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (الحج:30)، ويقول تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32).
لأجل ذلك نقول: إن الذي يطوف بالبيت يعتبر نفسه كأنه بين يدي الله سبحانه، خاشع متواضع متذلل؛ لأجل ذلك فالطائف إما أن يقرأ كلام الله ويتدبره، وإما أن يرفع يديه داعيا وسائلا ربه حاجاته، وإما أن يذكر ربه بأسمائه وبصفاته، فيتجلى ربه في قلبه, ويعظم عنده قدر ربه، فعند ذلك يعظم حرمات الله تعالى، فلا يرجع إلى ذنب كان يقترفه، ولا يرتكب أي منكر في بقية حياته.
ولأجل ذلك يرجع الحاج إلى بلده وقد تأثر غاية التأثر بهذه المناسك وهذه المشاعر؛ ولهذا فقد ورد في بعض الآثار أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن قبّله فكأنما قبّل يمين الله، ومن استلمه فكأنه بايع الله وعاهده، فإذا استلم الركن اليماني أو الركن الذي فيه الحجر الأسود كان ذلك معاهدة منه لله، كأنه يقول: أعاهدك يا رب ألا أعود إلى ذنب ولا أخل بطاعة، ولا أرتكب معصية، ولا أتخلف عن أمر من أوامرك، ولا عن شريعة من شرائعك، أعاهدك على أن أكون عبدا عابدا في بقية حياتي.. هكذا ينبغي أن يكون أثر وفائدة ومنفعة هذه العبادة.
ومن منافع هذه العبادة كذلك أنه إذا ابتدأ هذا الطواف لأول مرة فإنه يبدأه وهو نشيط؛ ولأجل ذلك شرع في أول طوافه أن يظهر النشاط، فيُسَنُّ الرمل في طواف القدوم، أو طواف العمرة -وهو الإسراع في المشية- لإظهار النشاط في العبادة، ولإظهار الجلد، أو لتذكر حالة الذين طافوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يرملون ذلك الرمل.. كل ذلك من منافع هذا الطواف.

ومن المنافع أيضا أن من سنن الطواف أنه يبدي منكبه الأيمن وهو ما يسمى الاضطباع؛ وذلك أيضا لإظهار القوة وإظهار الجلد، وإظهار النشاط في هذه العبادة، فإذا أظهر ذلك كله كانت العبادة سهلة يسيرة عليه، يسهل عليه بعد ذلك كل صعب من العبادات التي يتعبد بها.
ومعلوم أيضا أن الطواف يشتمل على صلاة ركعتين ذكرها الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة:125)، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فلما طاف بالبيت أتى إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين، وتلا هذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
هكذا بيّن أن هذه الآية تطبيقها أن تصلي ركعتين، وإن كان مقام إبراهيم هو البيت كله وما حوله، فكما أنك تطوف بالبيت سبعة أشواط، وأنت خاشع ، فكذلك تصلي بعدها ركعتين، الصلاة التي فيها تكبير وتسليم وأذكار وأدعية. كل ذلك لا شك أنه من المنافع التي أمر الله بها.

«سادسًا: منـافع السّعي بين الصّفا والمروة»:

ورد في "صحيح البخاري" عن ابن عباس قصةَ شرعيةِ هذا السعي، وهو أن إبراهيم عليه السلام لما وُلِد له إسماعيل من جاريته هاجر التي هي أم إسماعيل، وقد كانت أمة وكانت قد وهبها ملك مصر لزوجته سارة فوهبتها لإبراهيم فولدت له إسماعيل - عليه السلام - فلما أن ولدت إسماعيل غارت سارة امرأة إبراهيم منها، فقالت: أبعدها عني، فجاء بها حتى أنزلها عند البيت ولما تركها، ترك عندها جراب ماء، وجعلت تشرب منه، فلما أن نفد عطشت، فذهبت تطلب من يُغيثها، فعند ذلك صعدت على الصفا ونظرت، فلم تر شيئا، ثم سعت حتى وصلت إلى المروة ثم رجعت من المروة إلى الصفا حتى كملت سبعة أشواط. وبعد ذلك -بعدما أكملت سبعة الأشواط- جاءها الملك فبحث بعقبه فنبع ماء زمزم من آثاره، فقال لها: (لا تخافي، فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلذلك سعى الناس بينهما).

ولا شك أن الصفا والمروة من شعائر الله، كما بين الله تعالى ذلك فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} (البقرة:158)، كما أن الله سمى مزدلفة المشعر الحرام في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (البقرة:198)وسمى جميع المناسك شعائر في قوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)، وشعائر الله هي العلامات التي أمر بتعظيمها.
ونحن إذا سعينا بين هذين المشعرين -الصفا والمروة- فإننا نعبد الله تعالى ونعظمه؛ فلأجل ذلك فإن الذي يسعى أول ما يبدأ به ذكر الله تعالى، ثم بالتكبير، ثم بالتهليل، ثم بالتحميد، ثم بالتعظيم، ثم بقراءة القرآن: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة:158)، ثم بعد ذلك يبدأ في السير متوجهاً إلى المروة يسير أو يسعى، كل ذلك لا شك أنه عبادة وقربى، وكله ذكر لله.
وهكذا المشاعر كلها ذكر لله سبحانه وتعالى، رُوي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله"، أي أنها كلها تذكّر بالله، وتبعث على ذكر الله سبحانه وتعالى، فالذين يطوفون في حالة طوافهم يذكرون الله، والذين يسعون في حالة سعيهم يذكرون الله، ولا يذكرون غيره، ولا يبغون سواه، ولا يضَّرَّعون إلى غيره.
ولا شك أن ذلك كله يؤكد أن هذه المشاعر أو هذه المناسك شرعت لإقامة ذكر الله، ولتجديد عبادة الله سبحانه وتعالى، ولترسيخ أصل العبادة في القلب؛ حتى يحب العبادة محبة راسخة، ومحبة ثابتة لا تتزعزع، وحتى يثبت على عبادة الله بقية حياته، ويرجع إلى بلاده وقد تأثر بهذه العبادة؛ فهذا هو السبب في شرعية هذه العبادة، وشرعية جميع العبادات.

« سابعًا: منافع يوم التروية » :

لا شك أن مناسك الحج كلها عبادة لله تعالى، وتعظيم لشعائره، فالحجاج مدة مقامهم بمكة مأمورون بذكر الله وشكره، وحسن عبادته، فهم بعد أن يقْدُموا مكة قد يتحللون من إحرامهم إن كانوا متمتعين، وينشغلون بعد التحلل بأنواع من العبادة : كالطواف تطوعاً، والصلاة في المسجد الحرام وكثرة الذكر، والتكبير المطلق في الأيام المعلومات، وهي أيام عشر ذي الحجة، امتثالاً لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (الحج:28).
ولا شك أن ذلك مما يزيدهم إيماناً وتقوى، ويحبب إليهم الطاعة وأنواع العبادة، ويكرّه إليهم المعاصي والمخالفات، فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، أحرموا بالحج، بعد أن تمتعوا بتناول المباحات بين العمرة والحج، وأعطوا أنفسهم بعض شهواتها التي تستعين بها على الطاعة، وتعرف بها تمام نعمة الله تعالى؛ فبعد أن جددوا الإحرام في هذا اليوم، تقربوا إلى ربهم مرة أخرى بترك هذه المباحات، وفطموا أنفسهم عن هذه المشتهيات، وجددوا التلبية، رفعوا أصواتهم بالإهلال، متذكرين ما شُرع لأجله هذا الإحرام، متفكرين في حالهم وما يعملونه فيما بعد.
ثم في ذلك اليوم يتوجهون إلى منى وهي أحد المشاعر التي تؤدى فيها بعض مناسك الحج، ويقيمون فيها ذلك اليوم والليلة التي تليه، وهي ليلة عرفة وفي هذا المكان يشتغلون بالذكر والتكبير والتلبية، والدعاء والابتهال، وهو أول أيام سفرهم إن كانوا من أهل مكة ؛ ولذلك يصلون في هذا المكان الصلوات الخمس في مواقيتها، ويقصرون الرباعية، ويبدءون بالتلبية بعد كل صلاة.
ولا شك أن عملهم هذا من أفضل القربات؛ ففيه أنهم نزلوا فيه كالمسافرين، وعلموا أنه ليس مستقرا لهم؛ بل سوف يرحلون عنه بعد قليل, متذكرين به الرحيل من الدنيا، وفيه اعتبار جميع الحجاج مسافرين، متذكرين بذلك سفر الآخرة؛ حيث إن الدنيا كلها دار ظعن وارتحال، وإن الناس فيها سائرون إلى آجالهم، ثم إن هذا المبيت بمنى في مساء يوم التروية سنة مؤكدة، يحافظ عليها الحجاج لإكمال مناسكهم، مقتدين في ذلك بنبيهم صلى الله عليه وسلم في مبيته ورحيله ومنازله، فيحرصون على اتباعه، والتقيد بما جاء عنه.
وهكذا يبقون في منى إلى صبح يوم عرفة فبعد الصباح وطلوع الشمس يرحلون مرة أخرى إلى عرفة ثم يواصلون أعمالهم إلى آخر مناسكهم.
ولا شك أن الأكثر الذين يفرطون في يوم التروية، ويتجاوزون منى متوجهين إلى عرفة مخلِّين بهذا العمل المؤكد، تاركين لهذه السنة النبوية، قد فاتهم خير كثير، وإن لم يُخلّ بمسمى الحج، والغالب أن الذين يتركون المرور بمنى يوم التروية، والمبيت بها ليلة عرفة هم من الجهلة الغرباء، وأن الذين زينوا لهم ذلك هم المطوِّفون، الذين يتساهلون في هذا العمل، ويعتبرونه شاقًّا عليهم، فيتتبعون الرخص، موهمين هؤلاء الجهلة أن الصواب معهم، وكان على وزارة الحج الأخذ على أيديهم، وإلزامهم بتكميل المناسك، والمستحبات، والله المستعان.

« ثامنًا: منـافع يوم عرفة » :

لا شك أن أهم المناسك التي يؤديها الحجاج هو الوقوف في عرفات واجتماعهم كلهم هناك، في اليوم التاسع من ذي الحجة، والوقوف بعرفة من أعظم المناسك, وهو الحج الأكبر، ومن فاته هذا اليوم فقد فاته الحج.
ولا شك أن الوقوف بعرفة فيه منافع كثيرة ومن هذه المنافع كون الحجاج يجتمعون كلهم في مكان واحد، بحيث لا يخرجون عن محيط وحدود عرفة .. لا فرق بين عربيهم وأعجميهم! وبين قاصيهم ودانيهم! وذكرهم وأنثاهم! وصغيرهم وكبيرهم! وأميرهم ومأمورهم! مجتمعين في هذا المكان. فلماذا هذا الاجتماع الكبير؟! لأنهم عرفوا أن هذا الموقف - الذي هو موقف عرفة - هو موقف الحج الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة) رواه الترمذي، والذي أخبر أن الشيطان يكون فيه صغيراً حقيرا، فقال: (ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة) رواه مالك في الموطأ؛ وذلك لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، حيث إن الله سبحانه وتعالى يطلع على عباده في ذلك الموقف، وكلهم قد كشفوا رءوسهم، وقد رفعوا أيديهم متضرعين إلى الله، يدعونه بخشوع وخضوع وتواضع، فيباهي بهم الملائكة، ويقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق؛ يسألون حوائجهم، أشهدكم أني قد غفرت لهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفورا لكم) رواه ابن خزيمة في "صحيحه".
لا شك أن هذا يدل على عظمة هذا الموقف الذي يُظهر فيه المسلم الاستكانة والتواضع والتذلل لله، يظهر فيه الفقر والفاقة، ويظهر فيه المسكنة، والحاجة الشديدة إلى ربه، وأنه فقير إلى ربه في كل حالاته، لا غنى له عن ربه طرفة عين، فمتى كان الحجاج على مثل هذه الحالة رحمهم الله تعالى وتقبل حجهم.
ولكن من المؤسف أن الكثير لا يتصفون بصفة العبودية، ولا يتصفون بصفة الذل والخضوع، ولا بصفة الخشوع والتواضع، ولا رفع أكف الضراعة، إلا ما شاء الله ولا نقنط من رحمة الله.
يقف الحجاج في هذا اليوم يقدِّمون صلاة العصر مع صلاة الظهر، يجمعونها جمع تقديم ليطول وقوفهم؛ ليقفوا داعين ربهم خمس ساعات أو ست ساعات متواصلة، لا يفصلها شيء، كل ذلك دعاء. هكذا فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم وقف من حين انتهى من خطبته وصلاته، وقف بعرفة على بعيره، واستمر واقفاً وهو يدعو رافعا يديه يدعو ربه، ولما سقط خطام ناقته منه، وكان ممسكاً به، تناوله بيده اليسرى وبقيت يده اليمنى مرفوعة حتى أخذ الخطام ثم رفع يديه، كل ذلك دليل على أنه أكد عبوديته إلى ربه في هذا الرفع، ولا شك أن المنفعة في ذلك هي الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى.

«تاسعًا: منـافع ليلة مزدلفة»:

لما أنه انتهى صلى الله عليه وسلم من الوقوف بعرفة بغروب شمس ذلك اليوم، بين أنه شرع لهم بعده الانصراف إلى المشعر الحرام وهو مزدلفة الذي أمر الله بالذكر فيه في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة:198).
شرع لهم في تلك الليلة -التي هي ليلة مزدلفة- أن يبيتوا في ذلك المكان، وألا يغفلوا عن ذكر الله، وأن يبدءوا إذا وصلوا بالصلاة، ولا شك أن اهتمامهم بالصلاة -صلاة المغرب والعشاء- يدل على أهمية الصلاة في نفوسهم، ويدل على أنهم قد عظموا صلاتهم، وأنهم قد اهتموا بها؛ فلما أخروها في الطريق ووصلوا، بادروا وصلوها في أول وصولهم ، ثم اشتغلوا بالذكر وباتوا تلك الليلة، ثم أصبحوا وصلّوا الصبح مبكرين، ودعوا ربهم بعد الصباح.
كل هذه الأدعية لا شك أن فيها منفعة، وهي اشتغالهم بذكر الله الذي أمر الله به؛ حتى يكون ذكر الله مقارنا لهم دائما، وتكون ألسنتهم رطبة بذكر الله، ويكون ربهم معظَّما في قلوبهم بحيث لا يعصونه، ولا يتجرءون على معصيته في بقية حياتهم.

«عاشرًا: منـافع يوم العيد»:

شرع للحجاج في يوم العيد أن يصلوا صباح العيد في مزدلفة ثم يذكروا الله ويدعوه إلى الإسفار؛ وهذا لا شك أنه مما يقوي الإيمان، ومما يزيدهم رغبة في ثواب الله تعالى وهو كثرة الذكر، وكثرة الدعاء.
بعد ذلك يستمر الحجاج في التوجه إلى منى مع الاشتغال بالتلبية إلى أن يصلوا إلى الجمرات التي أُمِروا بأن يذكروا الله عندها، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (البقرة:203)، وقد فُسِّر الذكر بأنه رمي الجمار، ويرمون في ذلك اليوم جمرة العقبة فقط، وهي التي تلي مكة.
ورمي الجمار لا شك أن فيه منفعة وهو التذكير بعداوة الشيطان الذي عرض لإبراهيم وإسماعيل وهاجر أم إسماعيل واعترض لهم في هذه الأماكن، فيعرفون بذلك عداوته ويحذرونه؛ فرميُهم لهذه الجمرات تذكير بعداوته، ولأجل هذا يتعوذون بالله من الشيطان في كل حالاتهم.
أما شرعية هذا الرمي على هذه الكيفية، فهو السنة التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله، أمرنا أن نرمي الجمرات على هذه الحال وفعل ذلك بنفسه، ثم بعدما فرغ من رمي جمرة العقبة شرّع لأمته في هذا اليوم أعمال يوم النحر، فبدأ بنحر هديه، ثم بحلق رأسه، ثم الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة زيادة على خطبته التي خطبها، وبيّن للناس مناسكهم في ذلك اليوم.

ونذكر -على سبيل الاختصار- بعض المنافع التي يحصل عليها المسلم في هذه الأعمال، وهي أعمال يوم النحر، فمن ذلك:

- منفعة حلق الرأس، معلوم أن بعض الناس قد يكون الشعر عندهم ثميناً، ويشق عليهم أن يحلقوه؛ فإذا حلقه تقربا إلى الله تعالى، دل ذلك على تضحيته لله بكل محبوب، وذلك من الأعمال الفاضلة؛ ولأجل ذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196) وقال في الذين يدخلون مكة: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (الفتح: 27) فوصفهم بقوله محلّقين ومقصّرين، وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحلق أفضل من التقصير، فقال: (رحم الله المحلقين. قيل: والمقصرين يا رسول الله. قال رحم الله المحلقين) رواه مسلم. ترحّم على المحلقين ثلاث مرات، وعلى المقصرين مرة؛ لأن الحلق أكمل امتثالا، وهذا الشعر قد يحب الإنسان بقاءه، فقد يكون هذا الشعر زينة أو نحو ذلك، وقد يتألم من الحلق؛ فإذا حلق هذا الشعر طواعية وتعبدا وذلا لله سبحانه وتعالى، كان ذلك دليلا على أنه عابد لله، ومتعبد، وأنه مطيع لله، غير عاص.
- أما منفعة نحر الهدي، فإنه من القرابين التي يذبحونها؛ فيحيون بها سنة أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، فإن الله تعالى ابتلاه بذبح ولده، فامتثل ذلك في قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102) فقال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات: 105-106) ثم قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 107) ففداه الله تعالى بذبح عظيم فذبحه، فصارت سنة مؤكدة أن الحجاج يذبحون ما تيسر اتباعا لسنة أبيهم إبراهيم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن المال عزيز في النفس، وأن الإنسان يشح بماله ويحب المال، كما في قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:20)، ولكن إذا عرف أن ربه يحب منه أن يبذل هذا المال، وينفقه في مرضاته؛ هانت عليه كل النفقات في سبيل الله، وفي ذات الله، وإذا عرف أن ربه يحب النفقة في هذا الوجه، وأنفق فيها، كان ذلك لذة وراحة وسلوى ومحبة، وأمرا محبوبا عنده؛ لأنه يعرف أن ربه يضاعف له هذا العمل أضعافا كثيرة، ويعرف أن هذه الذبيحة التي يذبحها يجد أجرها أضعافا مضاعفة.
كما أنه قد هانت عليه النفقة التي أنفقها من حين خرج من بلاده إلى أن رجع إليها; لأنها نفقة في طاعة الله، يرجو أن يكون ثوابها عند الله تعالى أضعافا مضاعفة. فهذا ونحوه مما يبين أن على الإنسان أن يكون ممتثلاً لأمر الله سبحانه وتعالى في جميع حالاته، قبل الحج وبعده، وليس في أيام الحج فقط.
ً
بعد ذلك يستمر الحجاج في إكمال مناسكهم فيبقون أيام التشريق يذكرون الله ويكثرون من ذكره وشكره، ويكملون رمي الجمرات التي أمر الله تعالى بها، وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك يفعله الحاج امتثالاً لأمر الله. وإذا عرف الإنسان الحكمة في هذه الأوامر والمنافع والفوائد التي في هذه المناسك، عرف أن الله سبحانه وتعالى ما أمر إلا بما فيه مصلحة ومنفعة، فاطمأن إلى شرع الله، وعرف حكمته في كل الأوامر.
 
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، ويرزقنا علماً نافعاً، وأن يرزقنا حجًّا مبروراً، وعملاً صالحاً مقبولاً. ونسأله تعالى أن يجعل سعينا مشكوراً، وأن يضاعف لنا الأجور، ونسأله أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، ويرفع لنا درجاتنا، ويجزل لنا المثوبة، ويجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

www.islamweb.net