برهان التصميم (2).. الضبط الدقيق

25/08/2015| إسلام ويب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
من أعظم الأدلة على وجود الله تعالى ما يسمى: برهان الضبط الدقيق ''Fine Tuning Argument ''، وصيغته التي سأذكر في هذا المقال حرّرها الفيلسوف المعاصر: روجر وايت ''Roger White '' في بعض كتاباته.
وكما فعلنا في مقالنا السابق، فإننا هنا أيضا نبدأ بمثال توضيحي، ننتقل منه إلى تقرير البرهان.

مثال تقريبي: رموز تعطيل القنبلة النووية!
لنفرض أن قنبلة نووية هائلة تهدد حال انفجارها بتدمير الكرة الأرضية كلها، وأن الطريقة الوحيدة لتفادي الانفجار، هو أن تكون رموز حقيبة التفجير موافقة بالضبط لسلسلة مخصوصة من الأرقام، في الوقت الذي بُرمج فيه الانفجار، أي قبل ساعة من الآن مثلا. وأي تغيير يحصل في رمز واحد، يؤدي ولا بد إلى انفجار القنبلة وتدمير الأرض كلها!

ولنفرض أن أزرار الحقيبة المحتوية على الرموز، مرتبطة بواسطة أسلاك إلى محاور دائرية تتأثر بقوة الريح وتوجُّهها، بحيث إن هبوب الريح في اتجاه معين بقوة معينة يجعل الزر على رقم مخصوص.

ولنفرض أن القنبلة النووية لم تنفجر في ذلك الوقت المعين، بل إن الكرة الأرضية سالمة آمنة مطمئنة، مما يعني أن رموز حقيبة التفجير كانت قبل ساعة من الآن موافقة تماما لما ينبغي أن تكون عليه في حالة عدم الانفجار!

ما الذي يخطر ببالنا حينئذ (غير السعادة العظيمة بعدم انفجار الكرة الأرضية، بالطبع)؟

يمكن لبعضنا أن يقول: إن هذه محض صدفة، ونحن محظوظون، لأن الرموز وافقت السلسلة الصحيحة، في ذلك الوقت المحدد بالضبط.

ولكن لا شك أن التفسير الأكثر موافقة للعقول السليمة، هو أن شخصا ما تدخّل في الأمر، فثبّت رموز الحقيبة في الوقت المحدد على الأرقام المطلوبة.

ولا شك أننا لن نجد عاقلا يشكك في صحة التفسير الثاني، وهشاشة التفسير الأول!

الثوابت الكونية Cosmological Constants
بعد أن شرحنا هذا المثال التوضيحي، لننتقل الآن إلى محور آخر.

يتداول الفيزيائيون في قوانين الفيزياء التي تحكم الكون، مجموعةً من الأعداد الثابتة، التي يسمونها: ''ثوابت كونية''، مثل: سرعة الضوء أو قوة الجاذبية أو ما أشبه ذلك.
ويقرر الفيزيائيون أمرين اثنين:

أولهما: أنه لا يوجد في قوانين الفيزياء ما يحتّم أن تكون هذه الثوابت بقيمها المعروفة. أي: لا يمكن التنبؤ بهذه القيم انطلاقا من قوانين الفيزياء.

والثاني: أن كل واحدة من هذه الثوابت لو تغيرت قيمتها – ولو بمقدار صغير جدا – لتغير الكون، بحيث لم يعد صالحا لنشأة الحياة فيه!

ولنأخذ مثالا يوضح الفكرة، وليكن هو: قوة الجاذبية.

يقول أهل الفيزياء: لو أن الجاذبية كانت أضعف مما هي عليه، ولو بقدر ضئيل جدا، لتشتتت المادة بعد الانفجار الكبير (The Big Bang) في الكون كله، ولم تتجمع في مجرات ونجوم وكواكب ونحو ذلك، ولما كانت الحياة ممكنة!
وبعكس ذلك، لو أن الجاذبية كانت أقوى مما هي عليه، ولو بمقدار قليل جدا، لما أمكن للمادة أن تتمدد بعد الانفجار الكبير، ولبقيت إذن في موضع محصور، بالغ الكثافة، ولما كانت الحياة ممكنة أيضا!
فتبين لنا إذن، أن قوة الجاذبية – وهي واحدة من ثوابت فيزيائية متعددة - لو تغيرت بزيادة طفيفة، أو نقص قليل، لتغير الكون كله، ولما أمكن للحياة أن توجد!
 

نخلص إذن إلى أن الثوابت كان بالإمكان أن تكون على غير ما هي عليه (لأن قوانين الفيزياء لا تحتم قيما مخصوصة لها)، ونخلص أيضا إلى أن هذه الثوابت لو كانت على غير ما هي عليه لما وجدت الحياة في الكون.

ألا يشبه هذا رموز حقيبة التفجير التي يمكنها أن تكون على غير ما هي عليه بسبب الريح المتحكمة في الأزرار، ولكنها لو تغيرت عما هي عليه لانفجرت الكرة الأرضية؟!

وبما أننا في صورة القنبلة النووية، حكمنا - انطلاقا من تحققنا من وجودنا الدالّ على عدم وقوع التفجير في الوقت المحدد له – بأن شخصا ما، مريدا لحماية الأرض من التدمير، هو الذي حدّد قيم الأزرار لتكون الرموز موافقة لسلسلة الأرقام المطلوبة، فإننا أيضا في الصورة الأخرى، نحكم – انطلاقا من تيقننا بوجود الحياة في الكون – بأن صانعا مُصمما، مريدا لوجود الحياة في الكون، هو الذي جعل للثوابت الفيزيائية قيمها المحددة، التي بدونها تنعدم الحياة.
فثبت وجود الله سبحانه وتعالى، المبدع لهذا الكون. وهذا هو المطلوب من هذا البرهان.

صياغة البرهان
وكما فعلنا مع برهان التصميم في صيغته الأولى، فلنصغ البرهان الذي بين أيدينا في صورة مقدمات تتلوها نتيجة.

المقدمة الأولى: قاعدة الاستدلال بأفضل تفسير، التي سبق شرحها في المقال السابق.

المقدمة الثانية: كون العالم الذي نعيش فيه قابلا لنشوء الحياة، أمر يحتاج لتفسير.

المقدمة الثالثة: أفضل تفسير لوجود الحياة في الكون، هو أن الخالق سبحانه أعطى للثوابت الفيزيائية قيمها الملائمة لذلك.

النتيجة: وجود الخالق المبدع، الذي أتقن خلق الكون، بما فيه من الكائنات الحية.
 

نقد ونقاش
لا شك أن برهان الضبط الدقيق، من أقوى الأدلة على وجود الخالق سبحانه، خاصة إذا تعزز بما استقر في نفوس الناس من الفطرة السليمة، قبل تعرضها للتحريف والإفساد.

ومع ذلك فإن دعاة الإلحاد، في سعيهم اليائس لمخالفة الفطرة، وإنكار الواضحات العقلية، تعرضوا لهذا البرهان ببعض التشكيك.

فقالوا مثلا:

''لا نقرّ بالمقدمة الثانية، بل نقول: وجود الحياة في الكون لا يحتاج إلى تفسير. كما لو أن شخصا رمى قطعة نرد، فجاءت على رقم 9 مثلا، فإنه لا يحتاج إلى تفسير ذلك ولا يسأل عنه أصلا''.
والجواب:

أن من الظواهر ما يحتاج إلى تفسير ومنها ما لا يحتاج إليه.

ففي حالة النرد، لا فرق بين رقم 9 وبين غيره من الأرقام، ولا تميز لهذا الرقم على غيره. فلو وقع السؤال: لِم رقم 9 خصوصا؟ لقلنا: ولِم لا يكون كذلك؟ فلو لم يكن رقم 9 لكان رقم 4 مثلا، ولوقع السؤال نفسه (1)!

ولا شك أن هذا فرق جوهري بين صورة لعب النرد، وصورة نشوء الحياة في الكون!

فالحياة تتسم بالجمال والتنسيق والترتيب، الذي يجعلها متميزة - بما لا وجه لإنكاره - عن عدم الحياة. ووجود هذه الحياة المتميزة بعد إعطاء قيم مخصوصة للثوابت الفيزيائية من ضمن ما لا يحصى من القيم الأخرى، أمر عجيب يحتاج إلى تفسير ولا بد!

وأقرب ما يماثل هذه الحالة التي نَصفها الآن: المثال الآتي.

لنفرض أن لديّ فوق الطاولة عددا كبيرا من البطاقات الصغيرة التي فيها حروف اللغة العربية مثلا. ولنفرض أنني غبت برهة يسيرة من الزمان، ثم رجعت فوجدت بعض هذه البطاقات مرتبا على الطاولة بحيث يقرأ منها القارئ الجملة الآتية: ''الإلحاد مخالَفةٌ للفطرة، ونقص في العقل''.

ما الذي يخطر ببالي حينئذ؟

لا شك أنني سأعتقد جازما أن شخصا ما (والظاهر أنه مؤمن عاقل!)، دخل الغرفة قبلي ورتّب الحروف على وفق تلك الجملة الطيبة. ويستحيل أن أعتقد أن النسائم المتسربة من النافذة هي التي حرّكت البطاقات، فوقع لها ذلك الترتيب العجيب بالصدفة!

وبعبارة أخرى: إن ما في وضع الجملة من التنسيق والترتيب والتميز عن الأوضاع العشوائية الأخرى، يجعل الأمر محتاجا إلى تفسير. والتفسير الذي يفرض نفسه هو تدخل شخص ما في ترتيب البطاقات.

والملاحدة في هذا الموضع من مناقشة الدليل، يفرّون إلى أحد مخرجين:

المخرج الأول: فرضية ''الأكوان المتعددة''.

أي: إذا كان الكون الذي نحن فيه قد وقع ضبطه على القيم التي تنشأ بها الحياة، فإننا نفترض وجود أكوان أخرى كثيرة جدا، بعدد الاحتمالات التي يمكن نظريا أن تكون عليها الثوابت الفيزيائية! فهنالك كون آخر، قوة الجاذبية فيه أقل من قوة الجاذبية في كوننا بنسبة 1% مثلا، وكون آخر تكون فيه أقل بنسبة 2% مثلا، وثالث تكون فيه أكثر بنسبة 1%، وهلم جرا!

فهنالك أكوان متعددة، بقدر ما لدينا من الاحتمالات في قيم الثوابت الفيزيائية؛ وهنالك كون واحد فيه الضبط الصحيح الموافق لنشأة الحياة!!

وهذا الافتراض في مثل هذا المقام العلمي، أقرب إلى التفسير الدوغمائي، والفكر الغيبي (الذي ينكرونه على أهل الأديان) منه إلى المنهج العلمي العقلاني (الذي يتشدقون به).

وهذا شبيه بقول القائل، في صورة بطاقات الحروف السابق بيانها:

إنني أفترض أن هنالك طاولات أخرى كثيرة، وقع في كل واحدة منها - تحت تأثير الريح - ترتيبٌ معين للحروف، لا ينتج جملة مفيدة. وأن الطاولة الوحيدة التي تكونت فيها جملة ذات معنى، هي التي في بيتي، وأمام عيني!
أيعدّ عاقلا، مَن يزعم مثل هذا؟!
 

المخرج الثاني: التزام وقوع الأمر بمحض الصدفة، وهو ما يسمونه برهان القِرَدة.

وملخص البرهان – المنسوب إلى توماس هكسلي Thomas Huxley – أن مجموعة من القردة لو تُركت تضرب على مجموعة من الآلات الكاتبة لمدة زمنية كافية، فإنها ستستطيع دون ريب أن تكتب قصيدة من قصائد شكسبير، أو ربما إحدى مسرحياته!

والحق أن هذا البرهان ضعيف جدا. فقد أثبت بعض الرياضيين (2) أن عمر الكون كله لن يكفي لكتابة مسرحية واحدة لشكسبير لو ضرب القرد على آلة كاتبة بمعدل مرة كل نانو ثانية (أي: كل جزء من مليار جزء من الثانية)!

وبعبارة أخرى: فإن الحقائق الإحصائية صريحة في أن المادة مهما بلغت من حجم، ومهما أعطيت من زمن، فإنها لا تقدر على إنشاء الحياة بالصدفة.

فمراهنة أهل الإلحاد على الصدفة وعامل الزمن، مخالفة للمنهج العلمي السليم، وهروب – لأسباب نفسية غير علمية - مما تقتضيه أدلة الفطرة والتصميم من ضرورة اعتقاد وجود الله سبحانه وتعالى.

وسيكون لنا في المقال المقبل – إن شاء الله – وقفة مع برهان آخر، يدل على وجود الله سبحانه وتعالى.

هوامش المقال:
1- هذا بحسب بظاهر الحال، وإلا فإننا نعلم أن خروج رقم معين يخضع لاعتبارات فيزيائية دقيقة يصحب حصرها (القوة الدافعة، درجة مقاومة الريح، نوع الاحتكاك على البساط، ..). ونعلم نحن الموحدين أن هذا كله – وإن بدا لنا اتفاقيا – هو بمحض تقدير الله عز وجل.
2- يراجع كتاب ''خرافة الإلحاد''، عمرو شريف: ص 341.
 

www.islamweb.net