وقفة مع فداء أسرى بدر

10/05/2020| إسلام ويب

في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، في العام الثاني من الهجرة النبوية وقعت أحداث غزوة بدر، تلكم الغزوة التي كانت من الغزوات والمعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وقد عُرِفت في القرآن الكريم ببدر ويوم الفرقان، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}(الأنفال:41)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}(آل عمران:123). قال ابن كثير: "قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد (الحديد المغطي للبدن)، والبيض (خوذ حديد للرأس)، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيَّض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة}(آل عمران:123} أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد".

بعد انتهاء القتال في بدر وانتصار المسلمين، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسرى المشركين الذي أسروهم في القتال والمعركة، إذ لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم فيهم نص صريح، فكان رأي أبي بكر رضي الله عنه إطلاق سراحهم وأخذ الفدية منهم ليتقوّى بها المسلمون، ولعلّ في ترك قتلهم فرصة لمراجعة أنفسهم والتفكير بالإسلام، بينما أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم لأنهم أئمة الكفر، وفي التخلّص منهم ضربة قويّة لمشركي مكة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر رضي الله عنه واختار الفدية، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}(الأنفال: 67: 69).
قال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}(الأنفال: 67): "هذه الآية نزلت يوم بدر، عتاباً من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم.. فالعتاب إنما كان مُتَوَجِّهاً بسبب من أشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ الفِدية، هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره". وقال الطبري: " {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}(الأنفال: 67) يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تُرِيدُونَ}، أيها المؤمنون، {عَرَضَ الدُّنْيَا}، بأسركم المشركين، وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع". وعلى ذلك يكون الخطاب فى ظاهره وفي بدايته: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} موجَهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون فى حقيقته مُوَجَهاً إلى بعض الصحابة الذين أسرعوا فى إنهاء المعركة، وأخْذ الغنائم والأسرى بمجرد ظهور طلائع النصر، ولم يصبروا حتى يكثروا القتل فى العدو كسْراً لشوكته.
وقد روى مسلم في صحيحه موقف فداء أسرى بدر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (.. فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلتُ: لا والله، يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكن عليّاً من عقيلٍ فيضرب عنقه، وتمكني من فلان ـ نسيباً لعمر ـ فأضربه عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهْو ما قلتُ، فلما كان من الغد جئتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ـ، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}(الأنفال: 67: 69)، فأحل الله الغنيمة لهم) رواه مسلم. قال الشوكاني: "والإثخان: كثرة القتل".

قال ابن حجر في فتح الباري: "وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر، لأنه وافق ما قدَّر الله في نفس الأمر ولِمَا استقر الأمر عليه (من جواز أخذ الفداء)، ولدخول كثير منهم (الأسرى) في الإسلام إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب كما ثبت ذلك عن الله في حق من كتب له الرحمة، وأما العتاب على الأخذ ففيه إشارة إلى ذم من آثر شيئاً من الدنيا على الآخرة ولو قل، والله أعلم". وبعض العلماء يرون أن فى الآية عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أخذاً بظاهر رواية مسلم، ومع ذلك فالاجتهادات التى عوتب عليها النبي صلى الله عليه وسلم فى القرآن الكريم ـ في أسرى بدر أو غير ذلك ـ، ليست ذنوباً يمكن أن يكون صدورها من النبى صلى الله عليه وسلم مناقضاً للعصمة التي اختصه الله عز وجل بها، والتي يجب الإيمان بها له، وإنما هي ـ بعض اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقعت خلاف لِما هو الأوْلى فى علم الله المُغَيَّب عنه صلى الله عليه وسلم فيما لا وحْي فيه، ومن ثم ففى نزول هذه الآيات التي يُعاتَب فيها النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه دليل على مراقبة الوحي لما يجتهد فيه من أمور مستجدة، لم يأت فيها حكم أو أمر من الله عز وجل، وفى ذلك شاهد على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، وقد جاء الوحي بإمضاء حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر ـ وهو أخذ الفداء ـ. 

إن قضية أسرى بدر لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم فيها نص صريح فاجتهد واستشار أصحابه، ومثل هذا في السيرة النبوية كثير، والمسلم يؤمن ويعتقد بعصمة الأنبياء والرسل، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم 4:3)، قال البغوي: "يريد لا يتكلم بالباطل". وقال السعدي: "أي: ليس نطقه صادراً عن هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى .. وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يُوحَى".

www.islamweb.net