حبسها حابس الفيل

26/04/2020| إسلام ويب

في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من المسلمين، متوجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، فلما وصلوا إلى ذي الحليفة ـ ميقات أهل المدينة ـ أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاً هو ومن معه، وبعث بُسر بن سفيان إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش وردود أفعالهم، وحين وصل المسلمون إلى عسفان (مكان بين مكة والمدينة) جاء بُسر رضي الله عنه وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قد جمعوا له جموعاً، وأنهم مقاتلوه وصادوه ومانعوه عن البيت الحرام. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار أبو بكر رضي الله عنه بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة والطواف بالبيت، وقال: فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال صلى الله عليه وسلم: امضوا على اسم الله.

سار النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وسلك طريقاً وعِرة متوجهاً إلى مكة لأداء العمرة، وفي طريق سيرهم وعند اقترابهم من دخول مكة حدث أمر غريب ومفاجئ، فقد برَكَت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وامتنعت عن السير على غير عادتها، وقد روى البخاري في صحيحه هذا الموقف عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيْبِيَّة، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم (موضع يعرف بكراع الغميم بين مكة والمدينة) في خيل لقريش طليعة (من يبعث للاستطلاع)، فخذوا ذات اليمين، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بِقَتَرَةِ الجيش (غبار الجيش الأسود)، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية (الطريق المرتفع في الجبل) التي يهبط عليهم (أهل مكة) منها برَكَتْ به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ (زجر للناقة لتسير)، فَأَلَحَّتْ (تمادَتْ على عدم القيام)، فقالوا: خَلَأَتِ (بركت ولم تبرح من غير عِلة) القَصْواءُ، خلَأَتِ القصواء (ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُقٍ (بعادة)، ولكن حبسها حابس الفيل، ثمَّ قال: والذي نفسي بيدِه، لا يسأَلوني خُطَّة يُعظِّمون فيها حُرُمات الله إلَّا أعطيتُهم إيَّاها، ثمَّ زجَرَها فوَثَبتْ به، قال: فعَدَل حتَّى نزَل بأَقصى الحُديبيَة).

حبسها حابس الفيل: أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها. وحادث الفيل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حبسها حابس الفيل) هو حادث معروف ومشهور، وهو من الأحداث الهامة التي سبقت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سُمِّي حادث الفيل وعام الفيل لأنه حدث فيه قدوم أبرهة الحبشي وجيشه ومعه فِيَلة لهدم الكعبة، وقد أرسل الله عز وجل على هذا الجيش طيراً أبابيل محملة بالحجارة فأهلكتهم، وهذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأتت تفاصيلها في كتب السيرة النبوية، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}(الفيل 1 : 5). قال ابن كثير في تفسيره: "كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال".

قال القاري: "(ولكن حبسها حابس الفيل) أي: منعها من السير كيلا تدخل مكة مع أصحاب الفيل من مكة وهو الله تعالى، لئلا تقع محاربة وإراقة دم في الحرم قبل أوانه لو قُدِّر دخولها، كما لو قُدِّرَ دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، قال القاضي: روي أن أبرهة لما همَّ بتخريب الكعبة واستباحة أهلها توجه إليها في عسكرهم، فلما وصل إلى ذي المجاز امتنعت الفيلة من التوجه نحو مكة، وإذا صرفت عنها إلى غيرها أسرعت". وفي شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: "قال ابن بطال وغيره: وفيه جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم، والسفر وحده للحاجة، والتنكب عن الطريق السهل إلى الوعرة للمصلحة، والحكم على الشيء بما عُرِف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا يُنْسَب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحا، ولم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم، والتصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح، إذ سبق منه ما يدل على الرضا بذلك، لأنهم زجروها بغير إذن ولم يعاتبهم".

ومن الفوائد العظيمة التي استنبطها ابن حجر في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حبسها حابس الفيل) قوله: "ومناسبة ذكرها (قصة الفيل) أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يُفضي (يؤدي) إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قٌدِّر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خَلْقٌ منهم، ويُستخرج من أصلابهم ناس يُسْلِمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جَمْعٌ كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمِنَ أن يُصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}(الفتح:25).. وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطلٍ مَحْض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حقٍ محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحَرَم مطلقاً، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره، وفيه ضرب المثل واعتبار من بقي بمن مضى". وقال ابن القيم: "ومنها (من الفوائد): رد الكلام الباطل ولو نُسِب إلى غير مُكَلَّف، فإنهم لما قالوا: خلأت القصواء، ردَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما خلأت، وما ذاك لها بخُلُق".

علم المسلمون ـ لِمَا رأوه بعد ذلك ـ أن الله عز وجل حين منع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم من الاستمرار في السير، كان لأمر أخفى فيه الخير للجميع، فقد تم وعُقِدَ عند الحديبية بين المسلمين وقريش صلح وعهد سُمِّيَ في السيرة النبوية بصلح الحديبية، وكان هذا الصلح ـ مع ما كان في ظاهره من إجحاف بالمسلمين ـ مفتاحاً لفتح مكة والفتوحات والانتصارات الإسلامية بعد ذلك، حتى قال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه: "ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبيّة، ولكن الناس يومئذ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون"، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية".

www.islamweb.net