خير جليس.. وأفضل أنيس

03/01/2021| إسلام ويب

دخل أحد الأدباء على الخليفة عبد الملك بن مروان فوجده يقرأ، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الكتاب أنبل جليس، وآنس أنيس، وأصدق صديق، وأحفظ رفيق، وأكرم مصاحب، وأفصح مخاطب، وأبلغ ناطق، وأكتم وامق (محب)، يورد إليك، ولا يصدر عنك، ويحكي لك، ولا يحكي عنك.. إن أودعته سرا كتمه، وإن استحفظته علما حفظه، وإن فاتحته فاتحك، وإن فاوضته فاوضك، وإن جاريته جاراك.. ينشط بنشاطك، ويغتبط باغتباطك، ولا يخفي عنك ذكرا، ولا يفشي لك سرا، إن نشرته شهد، وإن طويته رقد، خفيف المؤونة، كثير المعونة، حاضر كمعدوم، غائب كمعلوم، لا تتصنع له عند حضوره في خلوتك، ولا تحتشم له في حال وحدتك.. في الليل نعم السمير، وفي النهار نعم المشير.
فقال عبد الملك بن مروان: لقد حببت إلي الكتاب، وعظمته في نفسي، وحسنته في عيني.

الكتاب وما أدراك ما الكتاب!!
قال أبو عثمان الجاحظ: "الكتاب نعم الذخر والعدة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم القرين والدخيل والوزير والنزيل، والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً، وَظَرْفٌ حُشِي ظرْفاً، وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً؛ إن شئت كان أعيا من باقِل، و إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، ولا أعلم جاراً أبر، ولا خليطاً أنصف، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أكثر أعجوبة وتصرفا، ولا أقل صلفا وتكلفاً، ولا أقل إملالا وإبراما، ولا أقل خلافا وإجراما، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف عن قتال.. من كتاب.

ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، أبر من أرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، صامت ما أسكته، وبليغ إذا استنطقته؟

ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك، ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له والتذمم منه؟
ومن لك بزائر إن شئت جعلت زيارته غباً، وورده خمساً، وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك مكان بعضك.(كتاب الحيوان للجاحظ:1/38)
نِعم المحدِّث والرفيق كتابُ .. .. تلهو به إن خانك الأصحابُ
لا مفشـياً للســر إن أودعته .. .. ويُنال مـنه حِكْمَةٌ وصــوابُ

قال أبو علي أحمد بن إسماعيل: "الكتاب هو المسامر الذي لا يبتديك في حال شغلك، ولا يدعك في وقت نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له.. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والناصح الذي لا يستزيدك. (الفهرست لابن النديم:21)
أعز مكان في الدنا سرج سابح .. .. وخير جليس في الزمان كتاب

والكتاب رفيق لا يعاملك بالمكر، ولا يحتال عليك بالكذب.. إذا نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوَّد بيانك، وفخَّم ألفاظك، وعمَّر صدرك، وحباك تعظيم الأقوام، ومنحك صداقة الملوك، يطيعك فـي الليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته فـي الحضر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبَّت عليك ريحُ أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقاً به ، ومتصلاً منه بأدنى حبل لم يضطرك منه وحشة الوحدة إلى جليس السوء.

بساتين العلماء ونزهة الفضلاء
والكتب بساتين العلماء، ومستراح الأدباء، ونزهة الفضلاء.. جاء في معجم الأدباء: 5/305 عن أبي سعد السمعاني قال:
سمعت الأمير أبا نصر أحمد بن الحسين الميكالي يقول: تذاكرنا المتنزهات يوماً وابن دريد حاضر، فقال بعضهم: أنزه الأماكن غوطة دمشق. وقال آخرون: بل نهر الأبلة؟ وقال آخرون: بل سُغْدُ سمرقند. وقال بعضهم بل نهر نهروان بغداد. وقال بعضهم: شِعْبُ بَوَّانَ بأرض فارس. وقال بعضهم: نُوبَهَارُ بَلْخَ. فقال: هذه منتزهات العيون، فأين أنتم عن متنزهات القلوب؟ قلنا وما هي يا أبا بكر؟ قال: عيون الأخبار للقُتَيْبي، والزَّهرةُ لابن داود، وقَلَقُ المشتاق لابن أبي طاهر.
ثم أنشأ يقول:
ومنْ تكُ نزهتـهُ قينةٌ .. .. وكَأسٌ تُحَثُّ وأُخْرَى تُصَبْ
فَنُزْهاَتُنَا واسْتِرَاحَاتُنَا .. .. تَلاَقِي العُيُونِ ودَرْسُ الكُتُبْ.

قال أبو الفرج ابن الجوزي في صيد الخاطر: فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.
كما قيل:
فاتَني أن أرَى الدِّيارَ بَطرْفيِ... فلعَلِّي أرى الدِّيارَ بسَمْعيِ

قال أبو عثمان الجاحظ: ولولا الحكم المحفوظة والكتب المدونة، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطانُ النسيان سلطانَ الذكر، ولما كان للناس مفزعٌ إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع.(المحاسن والأضداد:19).

أعظم المنة
ولو لم يكن من فضل الكتاب عليك، وإحسانه إليك، إلّا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة بك، مع ما في ذلك من التعرّض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرديّة، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمة، وإحراز الأصل، مع استفادة الفرع.

ولو لم يكن في ذلك إلّا أنّه يشغلك عن سخف المنى وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكلّ ما أشبه اللعب، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنّة. 
 

www.islamweb.net