وإذ تعرض المصنف لذكر المؤمنين والمسلمين ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه وهو هنا فلنذكرهما على وجه الاختصار ، فالإيمان تصديق القلب بما علم ضرورة مجيء الرسول به من عند الله كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء وافتراض الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج ، والمراد [ ص: 55 ] بتصديق القلب به إذعانه وقبوله له والتكليف به ، وإن كان من الكيفيات النفسانية دون الأفعال الاختيارية إنما هو بالتكليف بأسبابه كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس ورفع الموانع . الإيمان والإسلام
وذهب جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج إلى أن الإيمان مجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة .
والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال { كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وعطف عليه العمل الصالح في مواضع كثيرة وقرنه بالمعاصي فقال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } وقال صلى الله عليه وسلم { } { اللهم ثبت قلبي على دينك لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله هلا شققت عن قلبه } ولما كان تصديق القلب أمرا باطنا لا اطلاع لنا عليه جعله الشارع منوطا بالشهادتين من القادر عليه ، قال تعالى { وقال قولوا آمنا بالله } وقال صلى الله عليه وسلم { محمدا رسول الله } رواه الشيخان وغيرهما ، فيكون المنافق مؤمنا فيما بيننا كافرا عند الله ، قال تعالى { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } .
وهل النطق بالشهادتين شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من الصلاة عليه والتوارث والمناكحة وغيرها غير داخل في مسمى الإيمان ، أو جزء منه داخل في مسماه قولان : ذهب جمهور المحققين إلى أولهما وعليه من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار فهو مؤمن عند الله ، وهذا أوفق باللغة والعرف ، وذهب كثير من الفقهاء إلى ثانيهما ، وألزمهم الأولون بأن من صدق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت [ ص: 56 ] الإقرار بلسانه يكون كافرا ، وهو خلاف الإجماع على ما نقله الإمام الرازي وغيره ، لكن يعارض دعوى الإجماع قول الشفاء الصحيح أنه مؤمن مستوجب للجنة حيث أثبت فيه خلافا ، أما العاجز عن النطق بهما لخرس أو سكتة أو اخترام منية قبل التمكن منه فإنه يصح إيمانه لقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولقوله صلى الله عليه وسلم { } وأما الإسلام فهو أعمال الجوارح من الطاعات كالتلفظ بالشهادتين والصلاة والزكاة وغير ذلك ، { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم جبريل عنه بقوله أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا } ولكن لا تعتبر الأعمال المذكورة في الخروج عن عهدة التكليف بالإسلام إلا مع الإيمان وهو التصديق المذكور فهو شرط للاعتداد بالعبادات ، فلا ينفك الإسلام المعتبر عن الإيمان وإن كان الإيمان قد ينفك عنه ، كمن اخترمته المنية قبل اتساع وقت التلفظ ، هذا كله بالنظر إلى ما عند الله ، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإسلام هو النطق بالشهادتين فقط ، فمن أقر بهما أجريت عليه أحكام الإسلام في الدنيا ، ولم يحكم عليه بكفر إلا بظهور أمارات التكذيب كالسجود اختيارا للشمس أو الاستخفاف بنبي أو بالمصحف أو ولهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله بالكعبة أو نحو ذلك والله أعلم .