إنك أنت الوهاب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .
دعاء علمه النبيء - صلى الله عليه وسلم - تعليما للأمة : لأن الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلا من عقلاء البشر ، لا تفاوت بينهم وبين الراسخين ، في الإنسانية ، ولا في سلامة العقول والمشاعر ، فما كان ضلالهم إلا من حرمانهم التوفيق ، واللطف ، ووسائل الاهتداء .
وقد علم من تعقيب قوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب الآيات ، بقوله : ربنا لا تزغ قلوبنا أن ، الذي أوقع الأمم في كثير منه وجود المتشابهات في كتبها ، وتحذيرا للمسلمين من اتباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردة والعصيان بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتوهم أن التدين بالدين إنما كان لأجل وجود الرسول بينهم ، ولذلك كان من جملة ما قصد بوصف الكتاب بأن منه محكما ومنه متشابها - إيقاظ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبر كتابها : تحذيرا لها من الوقوع في الضلال أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب ، ففي الموطأ ، عن الصنابحي : أنه قال : قدمت المدينة في خلافة فصليت [ ص: 170 ] وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية أبي بكر الصديق ربنا لا تزغ قلوبنا الآية .
، أو دواع من الخلطة أو الشهوة ، أو ضعف الإرادة ، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بالهدى ، ولا يدري المؤمن ، ولا العاقل ، ولا الحكيم ، ولا المهذب : أية ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء ، وكذلك لا يدري الشقي ، ولا المنهمك ، الأفن : أية ساعة تحف فيها به أسباب الإقلاع عما هو متلبس به من تغير خلق ، أو خلق ، أو تبدل خليط ، قال تعالى : فزيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل من خلل في ذاته ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ولذا كان دأب القرآن قرن الثناء بالتحذير ، والبشارة بالإنذار .
وقوله : بعد إذ هديتنا تحقيق للدعوة على سبيل التلطف ; إذ أسندوا الهدى إلى الله تعالى ، فكان ذلك كرما منه ، ولا يرجع الكريم في عطيته ، وقد استعاذ النبيء - صلى الله عليه وسلم - من السلب بعد العطاء .
و " إذ " : اسم للزمن الماضي متصرف ، وهي هنا متصرفة تصرفا قليلا ; لأنها لما أضيف إليها الظرف كانت في معنى الظرف ، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبة تصرف ، كما هي في يومئذ وحينئذ ، أي بعد زمن هدايتك إيانا .
وقوله : وهب لنا من لدنك رحمة طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومنع دواعي الزيغ والشر . وجعلت الرحمة من عند الله ؛ لأن تيسير أسبابها وتكوين مهيئاتها بتقدير الله ; إذ لو شاء الله لكان الإنسان معرضا لنزول المصائب والشرور في كل لمحة ; فإنه محفوف بموجودات كثيرة ، حية وغير حية ، هو تلقاءها في غاية الضعف ، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتقاء الحوادث ، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة ، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه ، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلا إلى قصده ، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور ولهذا قال تعالى : الله لطيف بعباده ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة " اللطف عند الاضطرار " .
[ ص: 171 ] والقصر في قوله إنك أنت الوهاب للمبالغة ، لأجل كمال الصفة فيه تعالى ; لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به . وفي هذه الجملة تأكيد بـ " إن " وبالجملة الاسمية ، وبطريق القصر .
وقوله : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليها ، وهو يوم تكون الرحمة سببا للفوز الأبدي ، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز ، كأنهم قالوا : وهب لنا من لدنك رحمة ، وخاصة يوم تجمع الناس كقول إبراهيم : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب . على ما في تذكر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين ، والعلماء الراسخين .
ومعنى لا ريب فيه لا ريب فيه جديرا بالوقوع ، فالمراد نفي الريب في وقوعه . ونفوه على طريقة نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين ، هذا إذا جعلت " فيه " خبرا ، ولك أن تجعله صفة لريب وتجعل الخبر محذوفا على طريقة " لا " النافية للجنس ، فيكون التقدير : عندنا ، أو لنا .
وجملة إن الله لا يخلف الميعاد تعليل لنفي الريب أي لأن الله وعد بجمع الناس له ، فلا يخلف ذلك ، والمعنى : إن الله لا يخلف خبره ، والميعاد هنا اسم مكان .