: إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه
( الوجه الأول ) : اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه ، هذه عبارتهم وأوردوا عليها شبهتين وأجابوا عنهما ، وحصروا نظم الكلام منثوره مرسلا وسجعا ، ومنظومه قصيدا ورجزا في أربعة أنواع ، لا يمكن عد نظم القرآن وأسلوبه واحدا منها ، كما يدل عليه كلام الوليد بن المغيرة من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعادوه استكبارا ، وجاحدوه استعلاء واستنكارا ، أخرجه الحاكم وصححه البيهقي في دلائل النبوة عن قال : ( ( إن ابن عباس الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم [ ص: 166 ] بالشعر مني ، لا برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : والله ما يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ) ) وكان هذا ذرني ومن خلقت وحيدا ) الآيات . سبب نزول قوله تعالى : (
ولعمري إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر ، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر ، ولم يوفها أحد حقها ، على كثرة ما بدءوا وأعادوا فيها ، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد ، وإنما هو مائة أو أكثر : القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر ، من السبع الطول التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات ، إلى السور المئين ، إلى الوسطى من المفصل ، إلى ما دونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها ، وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين ، المعين على الفهم المفيد للتأثير ، على اختلافها في الفواصل ، وتفاوت آياتها في الطول والقصر ، فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث ، ومنها المؤلف من سطر أو سطرين أو بضعة أسطر ، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها ، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها ، وهي على ما فيها متشابه وغير متشابه في النظم ، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض ، من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى ، وآياته في الأنفس والآفاق ، والحكم والمواعظ والأمثال ، وبيان البعث والمآل ، ودار الأبرار ودار الفجار ، والاعتبار بقصص الرسل والأقوام ، وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام .
يقول قائل : إن أساليب جميع الفصحاء والبلغاء متفاوتة كذلك ، لا يشبه أسلوب منها أسلوبا ، ولا يستويان منظوما ولا منثورا ، فمجرد اختلاف الأسلوب والنظم لا يصح أن يعد معجزا ( ونقول ) : من قال هذا فقد أبعد النجعة ، وأوغل في مهامه الغفلة ، فمهما تختلف منظومات الشعراء فلن تعدو بحور الشعر المنقولة عن المتقدمين ، والتوشيحات والأزجال المعروفة عند المولدين ، ومهما تختلف خطب الخطباء والمترسلين من الكتاب والمؤلفين في العلوم والشرائع والآداب فلن تعدو أنواع الكلام الأربعة التي بدأنا القول بها ، ولا يشبه شيء من هذه ولا تلك نظم سورة من سور القرآن ولا أكثرها ، ولكل منهم نظم وأسلوب خاص .
فإن شئت أن تشعر سمعك وذوقك بالفرق بين نظم الكلام البشري ونظم الكلام الإلهي ، فائت بقارئ حسن الصوت يسمعك بعض أشعار المفلقين ، وخطب المصاقع المفوهين ، [ ص: 167 ] المتقدمين والمتأخرين ، بكل ما يستطيع من نغم وتحسين ، ثم ليتل عليك بعد ذلك بعض سور القرآن المختلفة النظم والأسلوب كسورة النجم وسورة القمر وسورة الرحمن وسورة الواقعة وسورة الحديد - مثلا - ثم حكم ذوقك ووجدانك في الفرق بينها في أنفسها ، ثم في الفرق بين كل منها وبين كلام البشر في كل أسلوب من أساليب بلغائهم ، وتأثير كل من الكلامين في نفسك بعد اختلاف وقعه في سمعك .
بل تأمل المعنى الواحد من المعاني المكررة في القرآن ، لأجل تقريرها في الأنفس ونقشها في الأذهان ، كالاعتبار بأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم من مختصر ومطول ، وافطن لاختلاف النظم والأساليب فيها ، فمن المختصر ما في سور الذاريات والنجم والقمر والفجر ، ومن المطول ما في سورة الأعراف والشعراء وطه ، لعلك إن تدبرت هذا تشعر بالبون الشاسع بين كلام المخلوقين وكلام الخالق ، وتحكم بهذا الضرب من الإعجاز حكما ضروريا وجدانيا لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك ، وإن عجزت عن بيانه بقولك .
ومن : أنك ترى السور ذات النظم الخاص والفواصل المقفاة تأتي في بعضها فواصل غير مقفاة ، فتزيدها حسنا وجمالا وتأثيرا في القلب ، وتأتي في بعض آخر آيات مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزنا وقافية ، فترفع قدرها وتكسوها جلالة وتكسبها روعة وعظمة ، وتجدد من نشاط القارئ وترهف من سمع المستمع ، وكان ينبغي للخطباء والمترسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه ، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها ، أو الصعود إلى أفق بلاغتها ، ومن أعجب هذه السور أوائل سور المفصل بل المفصل كله . قال شيخنا الأستاذ الإمام : كان المعقول أن يحدث القرآن في هذه اللغة من البلاغة في البيان فوق ما أحدثه بدرجات . اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن نظم كلام العرب من شعر ونثر