: إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه
( الوجه السادس ) : أن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى في جميع أنواع المخلوقات من الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، ويصف خلق السماوات وشمسها وقمرها ودراريها ونجومها والأرض والهواء والسحاب والماء من بحار وأنهار وعيون وينابيع ، وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم ، وبيان لطريق التشريع السوي للأمم ، وقد حفظ ذلك كله فيه بكلمه وحروفه منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف ، ثم عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون أن تنقض بناء آية من آياته ، أو تبطل حكما من أحكامه ، أو تكذب خبرا من أخباره ، وهي التي جعلت فلسفة اليونان دكا ، ونسخت شرائع الأمم نسخا ، وتركت سائر علوم الأوائل قاعا صفصفا ، ووضعت لأخبار التاريخ قواعد فلسفية ، ورجعت في تحقيقها إلى ما عثر عليه المنقبون من الآثار العادية ، وحكمت فيها أصول العمران ، وما يسمونه سنن الاجتماع ، بحيث لم تبق لعلماء الأوائل كتابا غير مدعثر الأعضاد ساقط العماد .
وهذا النوع من أنواع الإعجاز غير ما تقدم من سلامته من التعارض والاختلاف ، فتلك في الماضي ، وهذه في الحاضر والمستقبل ، ذاك الاختلاف يقع من الناس بقلة العرفان ، [ ص: 173 ] وبضعف البيان ، أو بما يطرأ على صاحبه من الذهول والنسيان ، يريد بيان شيء فيخونه قلمه ولسانه ، ويعوزه أن يحيط بأطرافه ، وأن يجليه تمام التجلي لقارئ كلامه أو سامعه ثم يقول فيه قولا آخر على علم فتواتيه العبارة فيؤدي المراد ، فيختلف ما أبدأ مع ما أعاد ، أو يقول القول ثم ينساه ، فيأتي بما يخالفه في معناه ، أو يتكلم بما لا يعلم ، فيهرف بما لا يعرف ، وذلك عيب في الكلام وضعف في المتكلم هو من شأن البشر .
إن ما يأخذه الناس من المسائل العلمية والفلسفية بالتسليم في زمانهم ثم يظهر ما يبطل تلك المسلمات ، وينقص ما بنيت عليه من النظريات ، لا يعد عيبا في قائله ، ولا ضعفا في بيانه ، وإن كان موضوعه بيان تلك المسائل نفسها ؛ لأنه مما لا يسلم منه البشر . وأما من يتكلم في بعض مسائل الموجودات لبيان العبرة فيها ، أو الحث على الاستفادة منها ، لا لبيان حقيقتها في نفسها ، أو صفاتها الفنية عند أهل فنها ، فهو لا يكلف أن يبين تلك الحقيقة أو تلك الصفات التي تتعلق بغرضه من الكلام بالاصطلاحات العلمية والفنية ، وقد ينتقد منه هذا إذا كان مما يصرف السامع عن مراده منه ، أو يوجب نقصا في استفادته منه ، كما هو شأن الذين يعظون دهماء الناس من جميع الطبقات ويضربون لهم الأمثال بآيات الله تعالى ونعمه فيما سخر لهم من المخلوقات ، فإذا كان هذا النوع من الكلام والذي لا يعاب فيه مخالفته للمسائل الفنية - وقد يعاب فيه تكلف موافقتها - جاء مع ذلك إما موافقا وإما غير مخالف لمعارف أهل العصر الذي خوطب أهله به ، ثم تبين أن بعض هذه المعارف كانت جهلا ، وظهر أنه موافق لما تجدد من العلم الحق والتشريع العدل أو غير مخالف له ، فلا شك في أن هذه تعد له مزية خارقة للمعتاد في البشر ، وقد ثبت هذا القرآن وحده ، فهو كتاب مشتمل على كثير من أمور العالم الكونية والاجتماعية ، مرت العصور وتقلبت أحوال البشر في العلوم والأعمال ولم يظهر فيه خطأ قطعي في شيء منها ، لهذا صح أن تجعل سلامته من هذا الخطأ ضربا من ضروب إعجازه للبشر ، وإن لم يكن هذا مما تحدى له الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عجز البشر عن مثله ؛ لأنه لم يكن ليظهر إلا من بعده ، فادخر ليكون حجة على أهله .
فإن قيل : إن الطاعنين في الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانية يزعمون أن وتاريخية ، قد نقضت بعض آيات القرآن في موضوعها ، وأن التشريع العصري أقرب إلى مصالح البشر من تشريعه . العلوم والفنون العصرية ، من طبيعية وفلكية
قلت : إننا قد اطلعنا على أقوالهم في ذلك فألفينا أن بعضها جاء من سوء فهمهم أو فهم بعض المفسرين ، ومن جمود الفقهاء المقلدين ، وبعضها من التحريف والتضليل ، وقد رددنا نحن وغيرنا ما وقفنا عليه منها . وإنما العبرة بالنقض الذي لا يمكن لأحد أن يماري فيه مراء ظاهرا مقبولا ، ولو وجد شيء من هذا في القرآن لاضطرب العالم له اضطرابا عظيما ، كما أن [ ص: 174 ] العبرة في التشريع بما جمع بين المصلحة العامة والفضيلة والرحمة ، والتشريع الإسلامي يفضل التشريع الأوربي المادي بهذا ويسبقه إلى السؤال ، وقد سبقه إلى العدل والمساواة .
( فإن قيل ) : إن كهنة أهل الكتاب يدعون مثلكم أن كتبهم المقدسة سالمة من التعارض والتناقض ومخالفة حقائق الوجود الثابتة ويتكلفون مثلكم لرد ما يورده عليهم علماء الكون والمؤرخون مخالفا لتلك الكتب .
( قلت ) : ( إن هذا النوع من مخالفة كلام الخالق لكلام الخلق يجب أن يكون مشتركا بين القرآن وغيره من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ، لو بقيت كما أنزلت من غير تحريف ولا تبديل ، ومن المعلوم من التاريخ بالقطع عندنا وعندهم أن التوراة التي كتبها موسى - عليه السلام - ووضعها في التابوت ( صندوق العهد ) وأخذ الميثاق على بني إسرائيل بحفظها كما هو منصوص في آخر سفر ( تثنية الاشتراع ) قد فقدت من الوجود عندما أغار البابليون على اليهود وأحرقوا هيكل بيت المقدس ، والتوراة الموجودة الآن يرجع أصلها إلى ما كتبه عزرا الكاهن بأمر " ارتحشستا " ملك فارس الذي أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم ، وأذن له أن يكتب لهم كتابا من شريعة الرب وشريعة الملك ، ولذلك تكثر فيها الألفاظ البابلية كثرة فاحشة ، وقد بينا تحقيق ذلك في تفسير أول سورة آل عمران ، وبعض آيات من سورة النساء والمائدة ، كما بينا أن إنجيل المسيح - عليه السلام - لم يدون في عصره ولم ينقل عنه وعن الحواريين كما نقل القرآن تواترا بالحفظ والكتابة ، ولا كنقل الحديث بالأسانيد المتصلة ، وإنما ظهرت هذه الأناجيل التي هي قصص مختصرة له واشتهرت بعد ثلاثة قرون ، كما ظهر عشرات غيرها ، فاعتمد أربعة منها رؤساء الكنيسة التي أسسها قسطنطين ملك الروم الذي تنصر تنصرا سياسيا ، وأدخل النصرانية في دور جديد ممزوج بالوثنية ورفضوا الباقي ، كما بيناه مفصلا في الآيات التي أشرنا إليها آنفا في الكلام على التوراة ) .