[ ص: 175 ] : إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر
( الوجه السابع ) : اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله ، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن الله في الخلق ، وهذه مرتبة فوق ما ذكره في الوجه السادس من عدم نقض العلوم لشيء مما فيه ، ولا تدخل في المراد من أخبار الغيب المبينة في الوجه الخامس ، وإن كان لبعضها اتصال بقصص الرسل - عليهم السلام - ، ونحن ننبه على كل ما علمناه من هذا النوع في محله من تفسيرنا هذا ، ونشير هنا إلى بعضه .
فمن ذلك وأرسلنا الرياح لواقح ) ( 15 : 22 ) كانوا يقولون فيه :إنه [ ص: 176 ] تشبيه لتأثير الرياح الباردة في السحاب بما يكون سببا لنزول المطر بتلقيح ذكور الحيوان لإناثه ، ولما اهتدى علماء أوربة إلى هذا وزعموا أنه مما لم يسبقوا إليه من العلم صرح بعض المطلعين على القرآن منهم بسبق العرب إليه . قال مستر ( قوله تعالى : ( أجنيري ) المستشرق الذي كان أستاذا للغة العربية في مدرسة أكسفورد في القرن الماضي : إن أصحاب الإبل قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أوربة بثلاثة عشر قرنا . ا هـ .
نعم إن أهل النخيل من العرب كانوا يعرفون التلقيح إذ كانوا ينقلون بأيديهم اللقاح من طلع ذكور النخل إلى إناثها ، ولكنهم لم يكونوا يعلمون أن الرياح تفعل ذلك ، ولم يفهم المفسرون هذا من الآية بل حملوها على المجاز .
ومنه أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) ( 21 : 30 ) أي أكذب الذين كفروا بآياتنا ولم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة ففتقناهما وخلقنا منها هذه الأجرام السماوية التي تظلهم ، وهذه الأرض التي تقلهم ، وهذه المادة هي المبينة في قوله تعالى : ( قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ( 41 : 11 ) إلخ .
وهذا شيء لم يكن يعرفه العرب ولا غيرهم من أهل الأرض . وكذلك خلق كل الأشياء من الماء وهو أصرح في الآية مما قبله .
ومنه ومن كل شيء خلقنا زوجين ) ( 51 : 49 ) وقوله : ( قوله تعالى : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) ( 13 : 3 ) وهذه السنة الإلهية في النبات أصل لسنة التلقيح المذكورة آنفا فإن المراد بها أن الريح تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى كما تقدم ، وفي هذا المعنى [ ص: 177 ] عدة آيات ، أعمها وأغربها وأعجبها قوله تعالى : ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) ( 36 : 36 ) .
ومنه والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) ( 15 : 19 ) إن هذه الآية هي أكبر مثال للعجب بهذا التعبير ( قوله تعالى : ( موزون ) فإن علماء الكون الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق الموازين المقدرة من أعشار الغرام والمليغرام ، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في كل نبات . أعني أن هذا التعبير بلفظ ( كل ) المضاف إلى لفظ ( شيء ) الذي هو أعم الألفاظ العربية الموصوف بالموزون - تحقيق لمسائل علمية فنية لم يكن شيء منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر ، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلا بتصنيف كتاب مستقل .
ومنه يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) ( 39 : 5 ) تقول العرب : كار العمامة على رأسه إذا أدارها ولفها ، وكورها بالتشديد صيغة مبالغة وتكثير ، فالتكوير في اللغة : إدارة الشيء على الجسم المستدير كالرأس ، فتكوير الليل على النهار نص صريح في كروية الأرض ، وفي بيان حقيقة الليل والنهار على الوجه المعروف في الجغرافية الطبيعية عند أهلها ، ومثله قوله تعالى : ( قوله تعالى : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) ( 7 : 54 ) .
ومنه قوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها ) - إلى قوله - ( وكل في فلك يسبحون ) ( 36 : 38 - 40 ) فهو موافق لما ثبت في الهيئة الفلكية ، مخالف لما كان يقوله المتقدمون .
ومنه الآيات المتعددة الواردة في خراب العالم عند قيام الساعة ، وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض قرعا ، وتصخها فترجها رجا ، وتبس جبالها بسا فتكون هباء منبثا ، وحينئذ تتناثر الكواكب لبطلان ما بينها من سنة التجاذب والآيات في هذا - وفيما قبله - تدل دلالة صريحة على بطلان ما كان يقوله علماء اليونان ومقلدتهم من علماء العرب في الأفلاك والكواكب والنجوم ، وعلى إثبات ما تقرر في الهيئة الفلكية العصرية في ذلك ، وفي نظام الجاذبية العامة ، ويجد القارئ تفصيل هذا في عدة مواضع من هذا التفسير .
فهذا النوع من المعارف التي جاءت في سياق بيان آيات الله وحكمه كانت مجهولة للعرب أو لجميع البشر في الغالب ، حتى إن المسلمين أنفسهم كانوا يتأولونها ويخرجونها عن ظواهرها ، لتوافق المعروف عندهم في كل عصر من ظواهر وتقاليد أو من نظريات العلوم والفنون الباطلة ، فإظهار ترقي العلم لحقيقتها المبينة فيه مما يدل على أنها موحى بها من الله تعالى .
هذه أمثلة من مسائل العلوم الكونية والفنون الطبيعية التي خطرت بالبال عند الكتابة من غير تفكير ولا مراجعة إلا لإعداد الآيات والسور ، ولا بد من تعزيزها ببعض الأمثلة [ ص: 178 ] الخاصة بالتاريخ ، وليس التاريخ - من حيث هو تاريخ واحد - من العلوم التي تطلب من الكتاب الإلهي ، ولم يذكر فيه شيء منه بقصد سرد حوادث التاريخ ، وإنما جاء ما جاء فيه من ذكر أمم الرسل للعظة والاعتبار ، وبيان سنن الله تعالى في الأمم والأقوام ، وتثبيت قلب خاتم الرسل - عليه الصلاة والسلام - ، كما أن ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، وما في الأرض من المواليد الثلاثة لم يذكر شيء منه لبيان حقائق الموجودات في أنفسها ، وإنما ذكرت في سياق آيات الله تعالى الدالة على علمه وقدرته وحكمته ورحمته وفضله على عباده إلخ .
وقد تضمن كل من هذا وذاك بدقة التعبير وإعجاز البيان آيات أخرى تظهر آنا بعد آن ، دالة على أنواع من إعجاز القرآن ، وكونه وحيا من الرحمن ، فكتابه تعالى مظهر لقوله : ( كل يوم هو في شأن ) ( 55 : 29 ) .
أكتفي من هذا النوع الذي له علاقة بالتاريخ بمسألة عظيمة الشأن تشتمل على شواهد كثيرة منه ، وهي حكم القرآن الحق على التوراة والإنجيل اللذين كان يدين الله تعالى بهما أعظم شعوب الأرض مكانة في العالم وأوسعهم علما وحضارة ، ولا يزال الكثيرون منهم يقدسونهما ، مع بيان بعضهم لما نقض العلم منها ، وكذا سائر الكتب التي يعبرون عن مجموعها بالعهدين القديم والجديد .
ما هذا الحكم الذي صدر من عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم على لسان عبده ورسوله النبي الأمي الذي لم يقرأ في حياته سفرا ولم يكتب سطرا ، ولم يحط بشيء من أخبار التاريخ خبرا ؟ ملخص هذا الحكم أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد أوتوا نصيبا منه ، ونسوا نصيبا وحظا منه ، فلم يحفظوه كله ، ولم يضيعوه كله ، وأنهم حرفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا ومعنويا كما يفيده الإطلاق وأنهم غلوا في دينهم فزادوا فيه ما لم يأذن به الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، يحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه الله ، وأنهم قصروا في إقامته من جهة أخرى فعملوا بما يوافق أهواءهم منه وتركوا ما يخالفها ، كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، وأن اليهود قالوا على مريم بهتانا مبينا ، والنصارى غلوا فيها غلوا عظيما ، فقالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وقالوا : ثالث ثلاثة ( وما من إله إلا إله واحد ) ( 5 : 73 ) إلخ ما نطقت به الآيات التي يجد القارئ في تفسيرنا هذا تفصيلها مع تفسيرها الحق المؤيد بالتاريخ الصحيح ، الذي حققه علماء أوربا وغيرهم بعد الإسلام المصدق للقرآن الحكيم في حكمه ، الذي كان مجهولا بتفصيله عند [ ص: 179 ] جميع الناس ، وقد قام في هذه السنين بعض كبار رجال الدين في بلاد الإنكليز يكتبون في الجرائد ما قرروه في جمعيات الكنائس من أن الإنجيل لا يثبت ألوهية المسيح ، وقد نشرنا بعض ما اطلعنا عليه في الجرائد الإنكليزية من هذه التحقيقات ، وسننشر غيره في مجلتنا الإسلامية ( المنار ) .
وقد ثبت عندنا أن مستقلي الفكر من أهل أوربا بين مؤمن بما جاء به القرآن من حقيقة أمر المسيح ، وهو أنه بشر ممتاز بروح قدسية من الله ونبي له ، ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه مما جاء به القرآن ، وبين كافر به . وأما عقيدة الكنيسة بربوبيته وألوهيته فهي محصورة في رجالها وعامة المقلدين لهم ، وقد أخبرني قسيس كبير من الكاثوليك حرمته الكنيسة وأخرجته من طغمة كهنتها أن كبار علمائها موحدون كالمسلمين ، ولولا خشية ارتداد العوام لصرحوا بالتوحيد وبنفي التثليث كبعض قساوسة البروتستنت .
ولا يزال الموحدون يكثرون في أوربا والولايات المتحدة الأميريكانية عاما بعد عام ، ويقربون من الإيمان بالقرآن ( الله أكبر الله أكبر ، إنهم سوف يفعلون ) .
فمن أين جاءت هذه الحقائق لمحمد بن عبد الله الأمي بعد ثلاث وأربعين سنة عاش معظمها في عزلة عن العالم وعلومه ، رعى في أوائلها الغنم في جبال مكة وشعابها ، واتجر في أثنائها سنين قليلة قلما كان يعاشر فيها أحدا ؟ وهي التي ظل المسلمون يجهلون مراد القرآن منها بالتحقيق والتفصيل حتى بعد فتحهم للعالم واطلاعهم على علومه وتواريخه ، إلى أن وصل علم التاريخ وغيره إلى الدرجة المعروفة !
كان بعض أهل الكتاب والملاحدة من غيرهم يرون أن أكبر الشبهات على ما في القرآن من قصص الرسل وأقوامهم حسبانها مقتبسة من هذه الكتب المقدسة عند القوم ، ومما كانوا عليه من التقاليد والمذاهب ، باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - سمعها من بعضهم في أثناء سفره بالتجارة إلى الشام ، وكانوا يعدون ما خالف تلك الكتب من آيات القرآن خطأ سببه عدم جودة الحفظ أو خطأ ممن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منهم أو تعمدا منهم لغشه ، كما غش بعض اليهود الذين ادعوا الإسلام خداعا بعض الصحابة والتابعين بأخبار كثيرة أدخلوها في تفسير القرآن وكتب الوعظ والرقائق .
وكان من الأدلة على دحض هذه الشبهة أنه لا يعقل أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - تلقى كل هذه القصص عن بعض أهل الكتاب في رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب ، وهو ابن تسع سنين أو اثنتي عشرة سنة ، ولا في رحلته مع ميسرة مولى خديجة - رضي الله عنها - وهو وإن كان [ ص: 180 ] في هذه الرحلة شابا له خمس وعشرون سنة إلا أنه لم ينفرد دون ميسرة وسائر تجار قريش لدراسة ولا غيرها ، بل لم يلبثوا إلا أياما في بلدة ( بصرى ) باعوا واشتروا وعادوا ، ولا يعقل أن يكون سمع فيها أخبار جميع الرسل سرا أو جهرا ، وحفظها من هذه الكتب حفظا ، ثم لخصها بعد عشرين سنة تقريبا في هذه السور ، ولم يجد أهل مكة عليه شبهة في هذا الباب إلا وقوفه أحيانا على قين ( حداد صانع للسيوف ) رومي كان بمكة ، فقالوا : إنه هو الذي يعلمه وهو لم يكن يحسن العربية ، وفيه نزل : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) ( 16 : 103 ) وقد تقدم في مسألة اشتمال القرآن على أخبار الغيب الماضية من هذا البحث تصريح الآيات بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم ما قصته السور منها ولا قومه ، ولم يكن لأحد من خصومه المشركين أن يكذب أو يماري في ذلك .
هذا وإن ما لخصناه هنا من حكم القرآن عليها يثبت أنه حكم علي نزل من فوق السماوات العلا ، حكم العليم الحكيم الحكم العدل المهيمن ، وأن تحقيق المحققين من مؤرخي الأمم ، وتحقيق العقلاء من البشر قد أثبت ما أثبته هذا الحكم ، وقد نفى ما نفاه ، أليس هذا أنصع برهان على كونه حكم الله لا حكم عبده محمد بن عبد الله ؟ بلى والله ، ثم بلى والله ، ثم بلى والله ، ولا يماري في ذلك إلا متعصب أضله الله .
ومن قرأ التوراة والإنجيل ثم قرأ ما في القرآن من أخبار الرسل يرى أمرا آخر ، يرى أن القرآن بين صفوة ما فيهما من صحة عقيدة ، ومن أدب وفضيلة ، ومن عبرة وموعظة ، ومن أسوة بالأخيار حسنة ، وسكت عن كل ما فيهما مما ينافي ذلك ويخل به ، أو يجعل أفضل البشر قدوة سيئة ، وصرح بنقض ما طرأ على أهل الكتاب من نزعات الشرك والوثنية ، فإن فرضنا - تنزلا - أن هذا من صنع محمد بن عبد الله الأمي ، أفلا يكون برهانا على أنه هو في شخصه أرقى من جميع الأنبياء والمرسلين علما وعقلا وهداية وإرشادا ؟ بلى ، ولكن كيف يعقل حينئذ أن يكونوا أنبياء مرسلين ، وموحى إليهم من الله أو ملهمين ؟ الحق أن نفي نبوته - صلى الله عليه وسلم - يقتضي نفي النبوة وإبطال الرسالة من أصلها ؛ لأنها هي التي تعقل لذاتها وإنما يظهر ثبوت غيرها بالتبع لثبوتها ، وإننا رأينا بعض الكافرين بالوحي من الباحثين المستقلي الفكر يفضلون محمدا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلق ، ومنهم الدكتور شبلي شميل السوري المشهور ، فقد صرح بذلك قولا وكتابة وأثبته نظما ونثرا .
وقد آن أن نبين وجه دلالة القرآن على نبوته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ، ومن آمن به وشاركهم في الاهتداء بهديه من بعده إلى يوم القيامة .