الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل ومن أحكامها : أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي أن يخرج التائب إليه منه ، إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به ، وإن كان حقا ماليا أو جناية على بدنه أو بدن موروثه ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض ، [ ص: 300 ] فليتحلله اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات .

وإن كانت المظلمة بقدح فيه ، بغيبة أو قذف فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه ؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه ، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا ، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه وإعتابه ؟

على ثلاثة أقوال ، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف ، هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف ، والتحلل منه أم لا ؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم .

والمعروف في مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل ، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم .

والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه .

ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه ، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره ، فلا بد من إعلام مستحقه به ، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره .

واحتجوا بالحديث المذكور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : من كان لأخيه عنده مظلمة - من مال أو عرض - فليتحلله اليوم .

قالوا : ولأن في هذه الجناية حقين : حقا لله ، وحقا للآدمي ، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .

قالوا : ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه ، إن شاء اقتص وإن شاء عفا ، وكذلك توبة قاطع الطريق .

والقول الآخر : أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه ، بل يكفي توبته بينه وبين الله ، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به [ ص: 301 ] من الغيبة ، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه ، وذكر محاسنه ، وقذفه بذكر عفته وإحصانه ، ويستغفر له بقدر ما اغتابه .

وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، قدس الله روحه .

واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة ، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما ، وقد كان مستريحا قبل سماعه ، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله ، وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه ، كما قال الشاعر :


فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل

وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه ، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به .

قالوا : وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل ، فلا يصفو له أبدا ، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب ، والتراحم والتعاطف والتحابب .

قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين :

أحدهما : أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه ، فلا يجوز إخفاؤها عنه ، فإنه محض حقه ، فيجب عليه أداؤه إليه ، بخلاف الغيبة والقذف ، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط ، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس .

والثاني : أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ، ولم تهج منه غضبا ولا عداوة ، بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا ، من أنواع القذف والغيبة والهجو ، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد ، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية