الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل :

وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم . وتحتج بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ، ودعائهم وسؤالهم ، والثناء عليهم بخوفهم من النار ، ورجائهم للجنة . كما قال تعالى في حق خواص عباده الذين عبدهم المشركون : إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه - كما تقدم - وقال عن أنبيائه ورسله : ( وزكريا إذ نادى ربه ) - إلى أن قال - ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) . أي رغبا فيما عندنا ، ورهبا من عذابنا . والضمير في قوله : " إنهم " عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين .

والرغب والرهب : رجاء الرحمة ، والخوف من النار عندهم أجمعين .

وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه . وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم . وجعل منها : استعاذتهم به من النار ، فقال تعالى : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما ) . وأخبر عنهم : أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار . فقال تعالى : ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) [ ص: 76 ] فجعلوا أعظم وسائلهم إليه : وسيلة الإيمان ، وأن ينجيهم من النار .

وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب : أنهم كانوا يسألونه جنته . ويتعوذون به من ناره . فقال تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) الآيات إلى آخرها ، ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله : هي الجنة التي سألوها .

وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) إلى قوله : ( ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) . فسأل الله الجنة ، واستعاذ به من النار . وهو الخزي يوم البعث .

وأخبرنا سبحانه عن الجنة : أنها كانت وعدا عليه مسئولا ؛ أي يسأله إياها عباده وأولياؤه .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته : أن يسألوا له في وقت الإجابة - عقيب الأذان - أعلى منزلة في الجنة . وأخبر : أن من سألها له حلت عليه شفاعته .

[ ص: 77 ] وقال له سليم الأنصاري : أما إني أسأل الله الجنة ، وأستعيذ به من النار ، لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال : أنا ومعاذ حولها ندندن .

وفي الصحيح - في حديث الملائكة السيارة الفضل عن كتاب الناس - إن الله تعالى يسألهم عن عباده - وهو أعلم تبارك وتعالى - فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ، ويكبرونك ، ويحمدونك ، ويمجدونك ، فيقول عز وجل : وهل رأوني ؟ فيقولون : لا يا رب . ما رأوك . فيقول عز وجل : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا . قالوا : يا رب . ويسألونك جنتك . فيقول : هل رأوها ؟ فيقولون : لا وعزتك ما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا . قالوا : ويستعيذون بك من النار ، فيقول عز وجل : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا وعزتك ما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا . فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم ، وأعطيتهم ما سألوا ، وأعذتهم مما استعاذوا .

والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها ، والاستعاذة من النار ، والخوف منها .

قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : استعيذوا بالله من النار . وقال لمن سأله مرافقته في الجنة : أعني على نفسك بكثرة السجود .

قالوا : والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهما فلا ينسونهما . ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة ، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان .

قالوا : وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته ، فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها ، وقال : ألا مشمر للجنة ؟ فإنها - ورب الكعبة - نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وزوجة حسناء ، وفاكهة نضيجة ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد - الحديث - فقال الصحابة : يا رسول الله ، [ ص: 78 ] نحن المشمرون لها . فقال : قولوا : إن شاء الله .

ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله : 32 من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة تحريضا على عمله لها ، وأن تكون هي الباعثة على العلم : لطال ذلك جدا . وذلك في جميع الأعمال .

قالوا : فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض عليه ، ويقول من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية و من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة . و من كسا مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة و عائد المريض في خرفة الجنة ، والحديث مملوء من ذلك ؟ أفتراه يحرض [ ص: 79 ] المؤمنين على مطلب معلول ناقص ، ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه ؟

قالوا : وأيضا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ، ويستعيذوا به من ناره ، فإنه يحب أن يسأل . ومن لم يسأله يغضب عليه . وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار .

فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب ، مرضي له . وطلبها عبودية للرب . والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها .

قالوا : وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ، ورجاء هذه والهرب من هذه فترت عزائمه ، وضعفت همته ، ووهى باعثه ، وكلما كان أشد طلبا للجنة ، وعملا لها كان الباعث له أقوى ، والهمة أشد ، والسعي أتم . وهذا أمر معلوم بالذوق .

وقالوا : ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد ، وزينها لهم ، وعرضها عليهم . وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها ، وما عداه أخبرهم به مجملا . كل هذا تشويقا لهم إليها ، وحثا لهم على السعي لها سعيها .

قالوا : وقد قال الله عز وجل : ( والله يدعو إلى دار السلام ) . وهذا حث على إجابة هذه الدعوة ، والمبادرة إليها ، والمسارعة في الإجابة .

والتحقيق أن يقال : الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه ، والطعام والشراب ، والحور العين ، والأنهار والقصور . وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة . فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل . ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه . فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور ، إلى هذه اللذة أبدا . فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك . كما قال تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) . وأتى به منكرا في سياق الإثبات ؛ أي : أي شيء كان من رضاه عن عبده : فهو أكبر من الجنة .


قليل منك يقنعني ولكن قليلك لا يقال له قليل

وفي الحديث الصحيح - حديث الرؤية - فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم [ ص: 80 ] من النظر إلى وجهه ، وفي حديث آخر أنه سبحانه إذا تجلى لهم ، ورأوا وجهه عيانا نسوا ما هم فيه من النعيم ، وذهلوا عنه ، ولم يلتفتوا إليه . ولا ريب أن الأمر هكذا . وهو أجل مما يخطر بالبال ، أو يدور في الخيال . ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحب . فإن المرء مع من أحب . ولا تخصيص في هذا الحكم . بل هو ثابت شاهدا وغائبا .

فأي نعيم ، وأي لذة ، وأي قرة عين ، وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها ، وقرة العين بها ؟

وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب ، الذي لا شيء أجل منه ، ولا أكمل ولا أجمل : قرة عين البتة ؟

وهذا - والله - هو العلم الذي شمر إليه المحبون ، واللواء الذي أمه العارفون . وهو روح مسمى الجنة وحياتها . وبه طابت الجنة ، وعليه قامت .

فكيف يقال : لا يعبد الله طلبا لجنته ، ولا خوفا من ناره ؟

وكذلك النار أعاذنا الله منها ، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته ، وغضبه وسخطه ، والبعد عنه : أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم ، بل التهاب هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم . ومنها سرت إليها .

فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين ، والشهداء والصالحين هو الجنة . ومهربهم من النار .

والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

ومقصد القوم أن العبد يعبد ربه بحق العبودية . والعبد إذا طلب من سيده أجرة [ ص: 81 ] على خدمته له كان أحمق ، ساقطا من عين سيده ، إن لم يستوجب عقوبته . إذ عبوديته تقتضي خدمته له . وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه . إما أن يكون حرا في نفسه ، أو عبدا لغيره . وأما من الخلق عبيده حقا ، وملكه على الحقيقة ، ليس فيهم حر ولا عبد لغيره فخدمتهم له بحق العبودية ، فاقتضاؤهم للأجرة خروج عن محض العبودية .

وهذا لا ينكر على الإطلاق ، ولا يقبل على الإطلاق . وهو موضع تفصيل وتمييز .

وقد تقدم في أول الحديث ذكر طرق الخلق في هذا الموضع . وبينا طريق أهل الاستقامة .

فالناس في هذا المقام أربعة أقسام :

أحدهم : من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه . فهؤلاء أعداؤه حقا . وهم أهل العذاب الدائم . وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به ، وإما لإيثار العاجل عليه ، ولو كان فيه سخطه .

والقسم الثاني : من يريده ويريد ثوابه ، وهؤلاء خواص خلقه . قال الله تعالى : ( وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) فهذا خطابه لخير نساء العالمين ، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم . وقال الله تعالى : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ، فأخبر أن السعي المشكور : سعي من أراد الآخرة . وأصرح منها قوله : لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما .

وقد غلط من قال : فأين من يريد الله ؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه . فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله .

والقسم الثالث : من يريد من الله ، ولا يريد الله . فهذا ناقص غاية النقص . وهو حال الجاهل بربه ، الذي سمع : أن ثم جنة ونارا . فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق ، لا يخطر بباله سواه البتة . بل هذا حال أكثر المتكلمين ، المنكرين رؤية الله [ ص: 82 ] تعالى ، والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة ، وسماع كلامه وحبه . والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله . وهم عبيد الأجرة المحضة . فهؤلاء لا يريدون الله تعالى .

ومنهم من يصرح بأن إرادة الله محال .

قالوا : لأن الإرادة إنما تتعلق بالحادث . فالقديم لا يراد . فهؤلاء منكرون لإرادة الله غاية الإنكار . وأعلى الإرادة عندهم : إرادة الأكل والشرب ، والنكاح واللباس في الجنة ، وتوابع ذلك . فهؤلاء في شق ، وأولئك - الذين قالوا : لم نعبده طلبا لجنته ، ولا هربا من ناره - في شق . وهما طرفا نقيض . بينهما أعظم من بعد المشرقين . وهؤلاء من أكثف الناس حجابا ، وأغلظهم طباعا ، وأقساهم قلوبا ، وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ، ونعيم الأرواح والقلوب . وهم يكفرون أصحاب المحبة والشوق إلى الله والتلذذ بحبه ، والتصديق بلذة النظر إلى وجهه ، وسماع كلامه منه بلا واسطة .

وأولئك لا يعدونهم من البشر إلا بالصورة . ومرتبتهم عندهم قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم . وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته .

وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه .

والقسم الرابع - وهو محال - : أن يريد الله ، ولا يريد منه . فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم ، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة ، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام . وهو أن يكون الله مراده ، ولا يريد منه شيئا . كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : قيل لي : ما تريد ؟ فقلت : أريد أن لا أريد .

وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع : عقلا وفطرة ، وحسا وشرعا . فإن الإرادة من لوازم الحي . وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه ؛ كالسكر والإغماء والنوم . فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته . أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ، ودوام مراقبته ، والحضور معه ؟ وأي إرادة فوق هذه ؟

نعم . قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى . فلم يخرج عن الإرادة . وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة ، ومن مراد إلى مراد . وأما خلوه عن صفة الإرادة بالكلية ، مع حضور عقله وحسه فمحال .

وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه ، فان عن عوالمها : لم [ ص: 83 ] ننكر ذلك ، لكن هذه حال عارضة غير دائمة ، ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ، ولا مقدورة للبشر ، ولا مأمور بها ، ولا هي أعلى المقامات . فيؤمر باكتساب أسبابها . فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية