الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيكفي المسلم من حيث العموم أن يعتقد كفر الكافرين جملةً، وأن يسلم لحكم الشرع في ذلك، ويقبله إجمالًا.
وأما التفصيل والحكم على المعين بالكفر: فإن كان كافرًا أصليًا فلا إشكال في ذلك.
وأما الحكم بالردة على المعين: فلا يلزمنا التفتيش عنه، فإن ظهر ما يوجب الردة، وكان من المسائل الجلية المعلومة من الدين بالضرورة، كالإلحاد، وإنكار وجود الله، فهذا لا يحتاج إلى إقامة حجة!
وأما غير ذلك من المسائل مما يحتاج إلى إقامة حجة: فالحكم فيها على العين بالكفر لا يصح إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغًا، عاقلًا، مختارًا، غير معذور بجهل أو تأويل؛ وهذا الباب لا يتكلم فيه إلا الراسخون في العلم، ممن يجمعون بين العلم بالشريعة، والعلم بكيفية تنزيل أحكامها على الواقع، ويفرقون بين الأعمال التي لا تحتمل إلا الكفر، وبين ما يحتمل الكفر وغيره؟ وبين ما يحتمل العذر بجهل، أو تأول، أو غير ذلك، وبين ما لا يحتمل، وراجعي في ما سبق الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 246232، 206329، 176653، 106483.
وقال العلامة محمد أنور شاة الكشميري في إكفار الملحدين في ضروريات الدين: خرق الإجماع القطعي الذي صار من ضروريات الدين كفر، ولا نزاع في إكفار منكر شيء من ضروريات الدين: وإنما النزاع في إكفار منكر القطعي بالتأويل، فقد ذهب إليه كثير من أهل السنة من الفقهاء، والمتكلمين، ومختار جمهور أهل السنة منهما عدم إكفار أهل القبلة من المبتدعة المؤولة في غير الضرورية؛ لكون التأويل شبهة ... هذا كله في البدع غير المكفرة، وأما المكفرة، وفي بعضها ما لا شك في التكفير به، كمنكري العلم بالمعدوم القائلين: ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، أو بالجزئيات، والمجسمين تجسيمًا صريحًا، والقائلين بحلول الإلهية في علي -رضي الله عنه- أو غيره ... اهـ.
وقال أيضًا: الضابط في التكفير أن من ردَّ ما يعلم ضرورة من الدين فهو كافر، وفي هذا إجمال، والتحقيق أن من علمنا ضرورة أنه ردَّ ما يعلم ضرورة من الدين، وعلمنا بالضرورة أنه يعلمه ضرورة، فلا شك في كفره، وأما من ظننا أنه يجهل من الدين ما نعلمه نحن ضرورة، فهذا موضع كثير فيه الاختلاف، والأولى عدم التكفير. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في لقاءات الباب المفتوح: لا يجوز لنا أن نقول: فلان كافر حتى نتحقق من أمرين:
ـ الأمر الأول: ثبوت أن هذا العمل من الكفر، فإن لم نعلم وشككنا، فالأصل أن المسلم باق على إسلامه ولا يحل أن نكفره ...
ـ والأمر الثاني: أن نتحقق من انطباق هذا الوصف على هذا الشخص ... بحيث تتم فيه شروط التكفير، ومن الشروط أن يكون عالمًا، وأن يكون قاصدًا، فإن كان غير عالم فإننا لا نكفره؛ لأنه لم تقم عليه الحجة بعد، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]، وقال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] إلى قوله: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، والآيات في هذا المعنى متعددة، فإذا كان الإنسان لا يعلم أن هذا الشيء من الكفر فإننا لا نحكم بكفره.
الشرط الثاني: أن يكون الشخص مريدًا لما قال من كلمة الكفر، أو لما فعل ... ولهذا يفرق بين كون المقالة أو الفعالة كفرًا، وبين كون القائل لها أو الفاعل لها كافرًا، قد تكون المقالة أو الفعالة كفرًا، ولكن القائل لها أو الفاعل لها ليس بكافر لعدم انطباق الشروط عليه.
ومن ثم نحن نحذر غاية التحذير من التسرع في إطلاق الكفر على قوم لم يتبين فيهم الشروط، أي: شروط التكفير؛ لأنك إذا كفرته فلازم تكفيرك إياه أن تشهد بأنه في النار، فأنت الآن شهدت بالحكم، وبما يقتضيه الحكم، المسألة خطيرة جدًّا، ثم إن الحكم بالتكفير يستلزم بغضه، والبراءة منه، والبعد عنه، وعدم السمع له والطاعة إن كان أميرًا، وما أشبه ذلك مما يترتب على هذه المسألة التي يجب على الإنسان أن يكف لسانه عنها. اهـ.
والله أعلم.