الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من موانع تكفير المعين التأويل

السؤال

من المعلوم تواتر حد الردة، وأنه ثابت بالإجماع ولا شك في ثبوته، ولا شك في أن إنكاره ضلال، والسؤال ـ جزاكم الله خيرًا: التبس عليَّ حكم من يقرُّ بثبوت حد الردة وكأنه يقوم بتأويل الأحاديث أو ما أشبه ذلك ويقول إنها تختص بالمرتد المحارب فقط دون المسالم، بل ويستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: التارك لدينه المفارق للجماعة ـ ولا شك أنه ليس على صواب، فهل هذا كفر أم ليس بكفر؟ فمثلًا: الأشاعرة تأولوا متواترات فيها إجماع، بل وفي العقائد، ولم يُكفَّروا بذلك، وهذا سبب سؤالي، فهل مثل هذا الحصر البدعي لحد الردة يعتبر كفرًا أم لا؟ وهل مجرد الإقرار بوجود إجماع، ثم مخالفته، يعتبر كفرًا أم لا؟ أقصد من خالف الإجماع الذي يقرُّ بثبوته، ولكنه لا يقرُّ بحجيَّة الإجماع أصلًا، فهل يكون فعله كفرًا؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من موانع التكفير عند أهل السنة: التأويل، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد المخالفة، قال ابن حزم في كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده: من بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو رد ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة. اهـ.

وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا. اهـ.
وقال السعدي في الإرشاد في معرفة الأحكام: إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقا والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين وأجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك. اهـ.

وللتوسع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب: نواقض الإيمان القولية والعملية ـ للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف وكتاب: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف ـ للدكتور محمد الوهيبي، وكتاب: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة ـ للدكتور عبد الله القرني.

وبهذا المانع درأ أهل العلم الكفر العيني عن كثير من أهل البدع، قال الدكتور سعود الخلف في أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة: مما يدرأ التكفير عن المعين أن يكون متأولا فيما وقع فيه من كفر لشبهة عرضت له، فهذا لا يكفر حتى يبين له خطأه حتى ترتفع شبهته في المسألة، فهو كالمجتهد المخطئ وذلك مثل أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم، فإن أعيانهم لا يكفرون، لوجود الشبهة المانعة لهم من قبول الحق. اهـ.

ولا يخرج عن هذا المانع مخالفة الإجماع حتى ولو كان قطعيا، طالما وجدت الشبهة، قال الدكتور عبد الله الجبرين في مختصر تسهيل العقيدة الإسلامية: من موانع التكفير للمعيَّن أيضاً: التأويل، وهو: أن يرتكب المسلم أمراً كفرياً معتقداً مشروعيته أو إباحته له لدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذراً له في ذلك، وهو مخطئ في ذلك كله، فإذا أنكر المسلم أمراً معلوماً من الدين بالضرورة مثلاً، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان عنده شبهة تأويل، فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة إذا كان هذا التأويل سائغاً في لغة العرب، وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف يه بين أهل السنة، وعلى وجه العموم فعذر التأويل من أوسع موانع تكفير المعين، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه إذا بلغ الدليلُ المتأوِّلَ فيما خالف فيه ولم يرجع وكان في مسألة يُحتَملُ وقوع الخطأ فيها، واحتمل بقاء الشبهة في قلب من أخطأ فيها لشبه أثيرت حولها أو لملابسات أحاطت بها في واقعة معينة أنه لا يحكم بكفره، لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ {الأحزاب: 5} ولذلك لم يكِفّر بعض العلماء بعض المعينين من الجهمية الذين يعتقدون بعض الاعتقادات الكفرية في صفات الله تعالى، ومن أجل مانع التأويل أيضاً لم يكفر بعض العلماء بعض من يغلون في الموتى ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى، ومن أجل مانع التأويل كذلك لم يكفر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أموراً كثيرة مجمعاً عليها بين الصحابة إجماعاً قطعياً. اهـ.
وجملة، فإننا ننبه على أن الأصل أن من ثبت إسلامه بيقين، فلا يزول إسلامه بالشك، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان, فلا يكفر المسلم إلا إذا أتى بقول أو بفعل أو اعتقاد دل الكتاب والسنة على كونه كفرًا أكبر مخرجًا من ملة الإسلام، أو أجمع العلماء على أنه كفر أكبر, وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 721، 106396، 53835.

وعلى ذلك.. فمن أثبت حد الردة وتأوَّله على المحارب دون المسالم، لشبهة عرضت له، وخطأ في فهم بعض الأدلة، دون تعمد للمخالفة، لم يُحكم بكفره، وراجع في حد الردة الفتويين رقم: 192053، ورقم: 170755.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني