الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فضول النظر

فضول النظر

فضول النظر

فضول النظر هو إطلاقه بالنظر إلى الشيء بملء العين ، والنظر إلى ما لا يحل له ، وهو على العكس من غض البصر، والغض هو النقص ، وقد أمر الله عز جل به فقال . (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )(النور: 30، 31).
والله عز وجل لا يأمر بصرف كل النظر وإنما يأمر بصرف بعضه، قال تعالى :
( من أبصارهم ) ولما كان تحريم فضول النظر من تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم تعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، ولم يأمر الله سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه ، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك أمر بحفظه .

وقد أمر الله عز وجل بغض البصر وصيانة لفرج وقرن بينهما في معرض الأمر ، وبدأ بالأمر بالغض لأنه رائد للقلب كما قيل :
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف
ولأن غض البصر وسيلة إلى حفظ الفرج وصيانته ، وهو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه .

وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن البني صلى الله عليه وسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناها النظر ، والأذنان زناها الاستماع ، اللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، الرجل زناها الخطى ، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " ( البخاري ومسلم ).
وعن جرير رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال : " اصرف بصرك " (رواه مسلم ).

آفات فضول النظر :
الآفة الأولى : فضول النظر معصية ومخالفة لأمر الله عز وجل وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى وما سعد من سعد إلا بامتثال أوامره ، وما شقى من شقى إلا بتضييع أوامره .

الآفة الثانية : أنه يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر منه فإنه يوقع الوحشة بين العبد وربه ، وغض البصر يورث القلب أنسا بالله عز وجل وجمعيه عليه .

الآفة الثالثة : أنه يضعف القلب ويحزنه وغض البصر يقوي القلب ويفرحه .

الآفة الرابعة : أنه يكسب القلب ظلمة وإذا أظلم القلب أقبلت عليه سحائب البلاء والشر من كل مكان ، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة ، فإن ذلك إنما يكشفه النور الذي في القلب فإذا فقد ذلك النور بقى صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام ، وغض البصر لله عز وجل يكسب القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ولهذا ذكر الله عز وجل آية النور عقب الأمر بغض البصر فقال تعالى : (قلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور:30). ثم قال إثر ذلك : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ )(النور: من الآية35). أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه ، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب .

الآفة الخامسة : فضول النظر يقسي القلب ويسد على العبد باب العلم ، وغض البصر يفتح للعبد باب العلم ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق الأشياء .

الآفة السادسة : أنه يسمح بدخول الشيطان إلى القلب فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ، ثم يمنيه ويوفد على القلب نار الشهوة ويلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ، فيصير القلب في اللهب قد أحاطت به النيران من كل جانب ، فهو وسطها كالشاة وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أنه جعل لهم في البرزخ تنورا من نار ، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم ، وغض البصر يسد على الشيطان مدخله إلى القلب .

الآفة السابعة : إن إطلاق البصر يوقع العبد في الغفلة اتباع الهوى ، قال الله تعالى : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(الكهف: من الآية28). وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه، وغضه لله عز وجل يفرغ القلب للتفكير في مصالحه والاشتغال بها .

الآفة الثامنة : إن النظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته ، وهي الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل :

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء مـا دام ذا عين يقلبها في أعين الناس موقوف على خطر
يـسر مقلته ماضر مهجته لا مرحبا بسرور عادب الضرر

الآفة التاسعة : فضول النظر وإطلاق البصر يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه كما يقول القائل :

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

الآفة العاشرة : أن النظرة تجرح القلب جرحا فيتبعها جرح على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها ، كما يقول القائل :

ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

الآفة الحادية عشرة : إطلاق البصر يذهب نور البصيرة والجزاء من جنس العمل ، وغض البصر يسبب إطلاق نور البصيرة ويورث العبد الفراسة كما قال شاه بن شجاع الكرماني : (( من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد الحلال لم تخطئ فراسته )) . وكان شاه هذا لا تخطئ له فراسة .

الآفة الثانية عشرة : فضول النظر يوقع القلب في ذل اتباع وضعف القلب، ومهانة النفس وحقارتها ، وما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه ، وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل قرين معصيته فقال تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )(فاطر: من الآية10). أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح ، فمن أطاع الله فقد والاه، وله من العزة بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وله من الذل بحسب معصيته .

الآفة الثالثة عشرة : فضول النظر يوقع القلب في أسر الشهوة ، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه فهو كما قيل : ( طليق برأي العين وهو أسير ) .
ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار :
كعصفورة في كف طفل يسومها حِيا ضَ الردى والطفل يلهو ويلعب
الآفة الرابعة عشرة : فضول النظر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72). فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل والعمه الذي هو فساد نور البصير، فالنظرة كأس من خمر والعشق هو سكر ذلك الخمر ، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات نادما مع الخاسرين .
المصدر : الجواب الكافي ـ لابن القيم
البحر الرائق ـ أحمد فريد

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة