الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

غزوة بني قريظة ... دروس وعبر

غزوة بني قريظة ... دروس وعبر

غزوة بني قريظة ... دروس وعبر

بنو قريظة صنف من اليهود كغيرهم ممن نقضوا العهود، وخانوا المسلمين في أصعب الظروف، وتآمروا مع الأحزاب، غير مكترثين بما اتفقوا عليه مع المسلمين .. فالغدر ونقض العهود والمواثيق خُلق نشأ عليه اليهود، فلا يستطيعون فراقه، كما وصفهم الله عز وجل: { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ }(البقرة:100) ..

تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( لما رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم )(البخاري).
وأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسرعة الخروج إليهم قبل أن يتحصنوا بالحصون ويأخذوا العدة لذلك، حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يعنف واحدا منهم)(البخاري)..
فأسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة ، وحاصروهم في حصونهم خمسا وعشرين ليلة، حتى أتعبهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم يجد اليهود مفراً، ولم يجدوا ما يعتذرون به عن خيانتهم التي كادت تهلك المسلمين..

تقول عائشة ـ رضي الله عنها: (.. فأتاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انزلوا على حكم سعد بن معاذ ،فنزلوا ، وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سعد بن معاذ ، فأُتِي به على حمار عليه إكاف (ما يوضع على ظهر الحمار) من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: وأنًّى لا(وهو لا) يرجع إليهم شيئا ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم، قال أبو سعيد:فلما طلع على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل ، قال أنزلوه فأنزلوه ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ احكم فيهم، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله..)(أحمد)..

وقد نفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم الله فيهم، وكانوا أربعمائة مقاتل، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت قد قتلت أحد الصحابة، حين ألقت عليه رحى من أعلى الحصن، وأطلق سراح الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم، ثم قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أموالهم بين المسلمين، وفي بني قريظة نزل قول الله تعالى: { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }(الأحزاب27:26) ..
قال القاسمي : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني: بني قريظة ..

لقد أظهرت غزوة بني قريظة أدب الخلاف عند الصحابة، فقد اختلفوا ـ رضوان الله عليهم ـ في فهم كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، فبعضهم فهم منه أن المراد الاستعجال، فصلى العصر حين دخل وقتها، وبعضهم أخذ بظاهر كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يصلِّ إلا في بني قريظة، ولم يعنف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدا منهم ، ولم يخَّطئ أحد منهم الآخر ولا أساء إليه.
وفي ذلك دلالة هامة على تقرير مبدأ الأدب عند الخلاف، كما أن فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية.
وقد علق الحافظ ابن حجر على هذه القصة فقال :
".. تم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق. والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم .. ".

وقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة جواز قتالِ مَن نقض العهد، وجعله الإمام النووي ترجمة للحديث عند مسلم .. فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان، وحينئذٍ يجوز للمسلمين قتالهم إنْ رأوا المصلحة في ذلك..

ومن خلال هذه الغزوة يظهر لنا تأكد اليهود من نبوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحقدهم عليه.. فقد روى ابن هشام أن كعب بن أسعد ـ زعيم بني قريظة ـ قال لليهود: " يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: ما هي؟، قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل .." .
وبعد أن حكم فيهم سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ جيء بكعب بن أسعد ـ قبل أن تُضرب عنقه، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كعب بن أسعد ؟، قال: نعم يا أبا القاسم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقا بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني السلام؟، قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود . فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضربت عنقه ..

فاليهود كانوا على يقينٍ بنبوةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى اطلاعٍ تامٍّ بما أثبتته التوراة من الحديث عنه وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيداً لعصبيتهم وحقدهم وتكبرهم، فالإسلام في عقيدته وعامة أحكامه هو دين الفطرة السوية، فلن تجد مِن عاقلٍ سمع بدين الإسلام وعلم بحقيقته وجوهره ثم كفر به، إنما هو أحد شيئين، إما أنه لم يسمع بالإسلامِ على حقيقته، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره فرفضه لحقد أو كِبْر، أو مصلحة يخشى فواتها ..

وفي هذه الغزوة نقف على مزايا وفضائل كثيرة لسعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ ..
فقد أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاحية الحكم بما يشاء على بني قريظة، وجعل موقفه - وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موقف الموافق والمؤيد لكل ما سيحكم به، بل قال عن حكمه : ( لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله..). ثم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار عندما جاء سعد للحكم في بني قريظة: ( قوموا إلى سيدكم )(البخاري)..
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( اهتز العرش لموت سعد بن معاذ )(البخاري).
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أهديت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُلة حرير، فجعل أصحابه يحسونها ويعجبون من لينها، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أتعجبون من لين هذه؟، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين )(البخاري).
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عن سعد: ( هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة...)(النسائي)..

وبالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تماما من الوجود اليهودي، الذي كان عنصراً خطراً لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، وانتهى حلم قريش في وجود حليف لها داخل المدينة ..

لقد كانت حماية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية من المفسدين والمتآمرين منهجاً نبوياً وضعه لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان نتيجة هامة من نتائج هذه الغزوة المباركة ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة