الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السيرة النبوية والعقيدة

السيرة النبوية والعقيدة

السيرة النبوية والعقيدة

البناء التربوي السليم لا بد أن يقوم على أساس عقدي صحيح , ومن أجل هذا كان أول شيء دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو التوحيد وتصحيح العقيدة ، وقد مكث ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة المكرمة بعد بعثته ثلاث عشرة سنة يدعو الناس لتصحيح وترسيخ العقيدة في قلوبهم ، ولم تـنزل عليه الفرائض ولا التشريعات إلا في المدينة المنورة ، فبدون صحة العقيدة وسلامتها تصبح الأعمال هباءً لا وزن لها , قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ }(الزمر65 : 66) .

ومن خلال دراستنا للسيرة النبوية المطهرة نرى اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعقيدة ، ومن ثم فقد بدأ دعوته بقوله : ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) رواه أحمد ، ومعنى لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا الله .
وقد أمضى حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدعوة إلى عقيدة التوحيد ، وجاهد أعداءه من أجلها ، حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) رواه البخاري .

وحينما أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسله وأصحابه للدعوة إلى الإسلام أمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى عقيدة التوحيد قبل كل شيء ، كما في وصيته لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن وقال له : ( إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) رواه البخاري .

والمواقف من حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تبين اهتمامه بالعقيدة كثيرة ، منها :

حين فتح الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة المكرمة وهو الفتح الأعظم ، الذي أعز الله به دينه ورسوله ، دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد الحرام ، وحوله أصحابه ، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت ، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعن بعود تلك الآلهة المزيفة المنثورة حول الكعبة ، وهو يردد قول الله تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }(الإسراء:81) ، والأصنام تتساقط على وجهها على الأرض ، ونادى مناديه بمكة قائلاً : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره ، فطهر الله جزيرة العرب من رجس الوثنية ، وهيمنة الأصنام والتماثيل .

ولما اطمأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة بعث خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ إلى العزى ـ أعظم أصنامهم ـ بنخلة ليهدمها ، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وَكِنَانَة وَمُضَر كلها ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم ، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها ، فهدمها .

ولما سألت ثقيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يترك لهم صنمهم اللات ، وألحوا عليه في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين ، أبَى ، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم ، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم ، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يتركها ، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنهما ـ يهدمانها ، فهدماها في مشهد عظيم .

هكذا كان موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حماية التوحيد ، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله ، لأن الشرك إذا حدث وسُكِت عنه وعن الأسباب التي ربما تؤدي إليه ، لا يلبث أن يصير في حكم الواقع ومن المسلَّمات ، ومن ثم فقد دلت الأدلة الشرعية من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجوب هدم الأصنام ، ومن ذلك ما رواه عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وبأي شيء أرسلك ؟ ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أرسلني بِصِلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يُوحَد الله لا يُشْرك به شيء ) رواه مسلم .

يقول ابن القيم في زاد المعاد ـ في فقه قصة وفد ثقيف ـ : " .. هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت ، وهدمها أحب إلى الله ورسوله ، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير ، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ، ويشرك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ، ويجب هدمها ، ولا يصح وقفها ، ولا الوقف عليها ، وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام ، ويستعين بها على مصالح المسلمين " .

وفي غزوة حنين خرج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض حديثي العهد بالجاهلية ، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها ، ويذبحون عندها ، ويعكفون عليها .
يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه الترمذي .
وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك .. فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه على التوحيد ، ويصحح ما يظهر من انحراف في الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء .

ومن الصور الظاهرة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرصه على تربية الأطفال على عقيدة التوحيد ، وغرسه لها في قلوبهم ، من ذلك أمره الوالدين بالتأذين في أذن الطفل حين ولادته حتى يكون أول ما يقرع أذنه كلمات التوحيد .
عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال : ( رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذَّن في أذن الحسن بن علي ـ حين ولدته فاطمة ـ بالصلاة ) رواه الترمذي .
قال ابن القيم في كتابه تحفة المودود في أحكام المولود : " فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده ، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أينما كانوا " .
ويقول : " وسر التأذين ـ والله أعلم ـ : أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته ، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام ، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا ، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها " .

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه ـ قال : ( خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني ، فإن لامني أحد من أهل بيته قال : دعوه فلو قُدِّر ـ أو قال لو قضي ـ أن يكون كان ) رواه أحمد .

وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا غلام أو يا غليم ، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ ، فقلت : بلى ، فقال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ) رواه أحمد .

إن الاهتمام بتربية الناس على العقيدة ودعوتهم لها ـ ولاسيما الصغار ـ واضح في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد آتت هذه التربية ثمارها المباركة في إخراج ذلك الجيل الفريد الذي مكَّنَ الله ـ عز وجل ـ به لدينه ، وجعله سبباً لانتصار الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها ، فما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية وربطها بالواقع ، فليست سيرة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت ، بل الأمر أكبر من ذلك ، فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نورًا نستضيء به ، ودربًا نسير عليه ، ونطبقه في واقعنا .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة