الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السيرة النبوية والتدرج

السيرة النبوية والتدرج

السيرة النبوية والتدرج

التدرج من سنن الله تعالى في خلقه وكونه ، قال الله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }(الأعراف:54) ، وهو من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله ، وقد شاء الله تعالى أن يكون التدرج سُنة واضحة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشريعته ، ومن أجل ذلك نزل القرآن منجمًا ، قال الله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }(الإسراء:106) ، يقول الفخر الرازي : " لو أُنْزِل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخَلق ، فكان يثقل عليهم ذلك ، أما لو نزل مفرقًا منجمًا ، لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا ، فكان تحملها أسهل " .

ومن أول من أشار إلى التدرج أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حيث تقول : ( إنما نزل أوَّل ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدًا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدًا ) رواه البخاري .
وقد بيَّن ابن حجر في شرحه لهذا الحديث الحكمة من التدرُّج فقال : " أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول ، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد ، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة ، وللكافر والعاصي بالنار ، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ، ولهذا قالت : ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها ، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف " .

والتدرج في سيرة وحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شمل العبادات كما هو الشأن في مختلف الأحكام والمعاملات ، فالصلاة بصورتها التامة والحالية اكتملت فريضتها ليلة الإسراء والمعراج في السنة الثانية قبل الهجرة ـ الحادية عشرة من البعثة ـ ، والصوم فُرِض بالمدينة ، وكذلك الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام .
وفي غير العبادات طُبِق نظام المواريث في السنة الثالثة للهجرة ، أي بعد ستة عشر عاماً من بدء الوحي ، والنظام الإسلامي للأسرة من الزواج والطلاق والنفقة وسائر أحكامها اكتمل تشريعه وتطبيقه في السنة السابعة للهجرة ، أي عبر عشرين عاماً من بدء الوحي .

وقد تدرجت أحكام الخمر من الذم لها والتحذير منها إلى التحريم القاطع والنهائي لها في السنة الثامنة للهجرة ، أي في العام الواحد والعشرين من بدء الوحي ، قال الله تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }(البقرة: من الآية219) ، ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }(النساء: من الآية43) ، ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(المائدة:90) ..

وكان تحريم الربا في السنة التاسعة للهجرة ، وذلك بعد أن وُجِدَ في الواقع الإسلامي للمجتمع الجديد والأمة الوليدة اقتصاد إسلامي بديل حلّ محل الاقتصاد الجاهلي القديم ، فسنة التدرج مقررة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتشريع الإسلامي بصورة واضحة ملموسة ، وهذا من تيسير الإسلام على البشر .

وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبر ثلاثة عشر عامًا في مكة على الأصنام ، فكان يصلي بالمسجد الحرام ، ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنمًا ، بل وطاف في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء ، وهو يراها ولا يَمَسها ، حتى أتى الوقت المناسب ، حين فتح الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة المكرمة وهو الفتح الأعظم ، الذي أعز الله به دينه ورسوله ، دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد الحرام وحوله أصحابه ، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت ، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعن بعود تلك الآلهة المزيفة المنثورة حول الكعبة ، وهو يردد قول الله تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }(الإسراء:81) ، والأصنام تتساقط على وجهها على الأرض ، ونادى مناديه بمكة قائلاً : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره ، فطهر الله جزيرة العرب من رجس الوثنية ، وهيمنة الأصنام والتماثيل .

وحينما أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسله وأصحابه للدعوة إلى الإسلام أمرهم أن يراعوا سنة التدرج في دعوتهم ، فيبدءوا بالدعوة إلى عقيدة التوحيد قبل كل شيء ، كما في قصة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن أوصاه قائلا : ( إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) رواه البخاري .

وأما في المدعوين أنفسهم فقد تدرجت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ بدأ بمحيطه القريب زوجته خديجة ـ رضي الله عنه ، وصاحبه أبي بكر ، وابن عمه علي بن أبي طالب ، وغلامه زيد بن حارثة ، ثم اتسعت الدائرة لتشمل محيطا من أقاربه أوسع من ذي قبل عملا بقوله - عز وجل - : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }(الشعراء:214) .

وهناك أمور لم يفعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مراعاة لهذه السُنَّة ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : ( يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة ) رواه مسلم .
قال الحافظ ابن حجر : " لأن قريشا كانت تعظم الكعبة جدا ، فخشي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك ، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه " .
وقال الإمام النووي : " وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام ، منها : إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدء بالأهم ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة من أسلم قريبا ، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما ، فتركها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".

إن مُراعاة سنة التدرج كان أمرا واضحا في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومَعْلما من معالم الدعوة والتربية النبوية للصحابة في مكة والمدينة ، ولم يكن في أول الإسلام وفقط ، بل استمر بعد ظهوره أيضا بفترة , وتم تطبيقه في أمر الدعوة والجهاد ، وفي تحريم الخمر والربا ، وفي أمر الصلاة والزكاة ـ كما في حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ ، الذي يدل على التدرج في المراحل التي ينبغي أن يسلكها الدعاة في دعوة الناس ، وإقامة المجتمع الإسلامي .

وأوّل هذه المراحل ـ كما جاء في الحديث ـ الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدًا رسول الله ، ثم التدرج من الأهم إلى الأهم ، مع الوضع في الاعتبار أن ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمَرَ به على وجه اللزوم واجب التطبيق ، والتهاون فيه لا يليق بالمسلم أن يتصف به ، لكنَّ هذا أمْر ، والتدرُّج في إبلاغ الناس مبادئ الدين وسلوك المنهج المرحلي أمرٌ آخر ـ مطلوب ـ ، وهو هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة