الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

منذ القِدَم كانت مكّة المكرّمة مركزاً تجارياً مهمّاً يستقطب التجّار من كل مكان، وكان ذلك النشاط ملحوظاً ويزدهر عبر الزمن، ولم يزل الناس ينتهزون فرصة قدومهم إلى مكّة للاستفادة من هذا الحراك التجاري.

كلّ ذلك لم يكن محلّ نكير ولم يُنظر له في المنهج الإلهيّ كمسألة محذورة، أو أن فيه تصادماً مع مقاصد الحجّ وغاياته، حيث أُبيح للحاج أن يسعى ويبتغي فضل ربه خلال أدائه لعبادة الحجّ: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} (البقرة:198).

على أن الخالق تبارك وتعالى أراد من عباده أن يوجّهوا أنظارهم إلى ما هو أهم وأبقى، وأنفع وأجدى، إلى "الادخار الحقيقي" الذي يجعل من الدنيا مزرعةً للآخرة، إلى مقاييس الربح والخسارة من منظورٍ أوسع مدىً من المنظور الدنيوي البحت، وذلك كلّه من تجلّيات قوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} (البقرة:197).

فإذا كان المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى، فإن الوصول إلى هذه الغاية السامية له طرقٌ عديدة، والمراد هنا تذكير حجّاج البيت الحرام بألوان من العبادات التي يُمكن أن يمارسوها أثناء تأديتهم لمناسك الحج.

فمن ذلك: ذكر الله تعالى في كل حين وكل آن، فقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نُكثر من هذه العبادة فقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وإذا كان القلب يصدأ كما تصدأ المعادن، فإن جلاءه بالذكر، وهو الذخر الحقيقي للعبد في حياته، قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة، الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً) رواه الترمذي وابن ماجه.

ومن الغبْنِ الشديد ما نراه من زهد الناس وعدم الإقبال على هذه العبادة بالرغم من سهولة أدائها وعظيم أجرها، خصوصاً ما يحدث أيّام منى وعرفة وغيرهما في ظل وجود الأوقات الطويلة المليئة بالفراغ، فالذكر أولى من اللهو واللغو الذي لا فائدة فيه.

ومما يُنصح به الحاج، الانشغال بالدعاء، فنحن نعلم بعض المناسك -كالطواف والسعي- تستغرق وقتاً من الزمن ليس باليسير، وهي من المواطن التي تُرتجى فيها الإجابة، فكان من الحسَن أن يرفع الحاجّ أكفّ الضراعة إلى ربّه ومولاه كي يسأله من فضله، ويستزيده من خيريْ الدنيا والآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نبّه إلى خصوصية الحاج ومنزلته في شأن الدعاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم) رواه ابن ماجه.

وإذا كان هذا شأن الدعاء عموماً فشأنه يوم عرفة أخصّ، لأنه وقت التنزّل الإلهيّ، فقد جاء في صحيح مسلم مرفوعاً: (..وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، وفي هذا اليوم يكون الحاجّ في أشدّ حالاته تذلّلاً لربّه وإخباتاً، فلذلك كان الدعاء في هذا اليوم ليس كغيره، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبييون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير) رواه الترمذي.

ومن زاد التقوى المندوب إليه: التنفّل مطلقاً في السَحَر والضحى ونحوهما؛ انتهازاً لشرف الزمان وشرف المكان، والصلاة قد جاء وصفها بأنها نور، قال صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور) رواه مسلم.

وإذا كان مُراد الحاج من حجّه هو الجنة فالصلاة هي الطريق الموصلة إليه حيث إنها من مُوجِبات دخول الجنة والرفعة فيها، وعندما استُنصح رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت نصيحته: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة) رواه مسلم.

وكلما ترقّى العبد في سلم النوافل، كلما ارتقى إلى محبّة ربّه وخالقه، وكان أقرب إلى رضوانه وتوفيقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.

وإذا كان التزوّد من الطاعات هو المطلوب، فأي زادٍ خيرٌ من زاد القرآن المبارك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {آلم} حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف) رواه الترمذي.

وقد جعل الله تعالى قراءة القرآن صفقةً رابحة، وتجارةً حقيقيّة مضمونة الربح، وليس فيها احتمالٌ للخسارة: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور} (فاطر:35).

ومن زاد التقوى ولا شك، الامتناع عما حرّمه الله من الرفث والفسوق والجدال في الحج، لأن الكفّ عن المذامّ صدقةٌ للعبد على نفسه، وتخليصٌ للحج عن شوائبه، ثم إنه يحقّق معنى التقوى والذي يشمل الاتقاء عن المحارم بكل الوسائل: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والتقوى: هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه؛ فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع، وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضاً استعمال لضارٍّ، فلا يكون صاحبه من المتقين".

ونحن نرى بعض الحجّاج لا يجد غضاضةً في ارتكاب المحرّمات ومقارفة السيئات، ناهيك عن اللهو واللعب والانشغال عن الذكّر والعبادة، ولا تكاد مواسم الحج تخلو من هذه الصور المؤسفة، وأمثال هؤلاء لم يفهموا حقيقة الحجّ وغايته، فضعفت لديهم الإرادة في ضبط نفوسهم وكفّها عن الزلل والتقصير.

ومن الزاد الأخروي في الموسم، ولا سيما مع تراحم الناس وانتشار الضعفة والمساكين وكبار السن في صفوف الحجّاج، نفع الناس وإيصال الخير إليهم بكل سبيل، ولا شك أن رحمة الخلق تستلزم رحمة الخالق، والراحمون يرحمهم الرحمن.

وكم هو جميلٌ المشروع الذي قام به بعض المخلصين من أبناء مكّة لخدمة زوّار بيت الله الحرام؛ وذلك بإعانتهم على الطواف والسعي بواسطة الكراسي المتحرّكة احتساباً للثواب، لا يتقاضون عليه أجراً، وكم هو رائع ما يقوم به بعض التجّار وأصحاب المؤسسات فضلاً عن عامة الناس من توزيع المأكولات على الحجّاج واقتسام الأطعمة معهم وإهداء المياه التي يستعينون بها على مشقّة الحجّ ومناسكه.

ولقد تزوّد من قبلنا بزاد التقوى، وعملوا بمقتضى الأمر الإلهي: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فكانوا نماذج مشرقة نقتدي بها: فقد وُصف حجّ العجلي فقيل عنه: "كان كثير الذكر لله، طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة، متحمّلا لهفوات الرفيق".

وقال عبد المجيد بن أبي روّاد: "كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين، كأن على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة".

إن هذا والله لهو الحج المبرور، والسعي المشكور، والذي يُرجى له الثواب المذكور في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة