الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ

وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ

 وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ

ميلاد نبينا وحبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أهم حدث في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله الكون، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وقد وُلِدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، والمُجْمَع عليه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وُلِدَ عام الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم .
لقد كان الناس في مكة قبل الإسلام يعيشون في ظلمات الشرك والجهل، وقد أخبرنا الله ـ عز وجل ـ عن أحوالهم قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }(الجمعة الآية: 2)، وكذلك أخبرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أحوال الناس قبل أن يوحي الله إليه فقال: ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ) رواه مسلم .
ويصور لنا جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أحوال الناس في مكة قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول للنجاشي ملك الحبشة: " أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار " .

أحداث سبقت مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

الأمور العظيمة يسبقها من الإشارات والأحداث ما يكون مؤذنا بقربها، وعلامة على وقوعها، ولم يطرق البشرية حدث أعظم من ميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي ساق الله على يديه الخير للبشرية بأسرها، وقد سبق مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحداث عظيمة سجلت في السيرة النبوية وفي تاريخ البشرية، ومنها :
حفر عبد المطلب لزمزم، فقد كانت زمزم عينا يشرب منها النّاس، وكانت العرب تعظّمها لأنّها من شعائر دين إبراهيم الخليل ـ عليه السّلام ـ، وقد جهل النّاس مكانها، وانطمست معالمها، فأراد الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يجعل حفرَ بئر زمزم على يد عبد المطّلب جدّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ليشير إلى أنّ الله ـ تعالى ـ اصطفى بني هاشم بهذا الفضل المبين، الذي فيه إحياء لأمر من شعائر النّبيّين، وما كان ذلك إلاّ مقدّمة لمولد واصطفاء وبعثة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولذلك روى ابن إسحاق والبيهقي في " دلائل النبوّة " حديث عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي فيه حفر عبد المطّلب لزمزم .

ومن الأحداث الهامة التي سبقت ميلاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ حادثة عام الفيل، الذي ولد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذه الحادثة مشهورة ثابتة بالكتاب والسنة: قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }( سورة الفيل من الآية 1: 5 ) .
قال الماوردي: " آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل " .
وقال ابن كثير: " هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم وخيب سعيهم وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ".
وقال ابن عبد البَرِّ: " وُلِدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعْدَ قُدومِ الفِيلِ بِشَهْرٍ، وقيل بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وقيل بِخَمْسِينَ يوما " .
وقد أكثر المؤلفون في السير والتاريخ في ذكر الحوادث والمبشرات التي اقترنت بميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفيها الكثير مما لم يصح، وقد قال الشيخ صفي الرحمن في كتابه الرحيق المختوم: " وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبري والبيهقي وغيرهما، وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعي التسجيل " .

مولد نبي الهُدَي ونشأته :

في يوم الاثنين من ربيع الأول من عام الفيل أضاء الكون وشرف بميلاد سيد الخلق، وخاتم المرسلين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعن قيس بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ) رواه البيهقي، وعن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئِل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ( ذاك يوم وُلِدْتُ فيه، ويوم بُعِثْتُ ـ أو أنزل عليَّ فيه ) رواه مسلم .
وقد فقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباه قبل مولده، فوُلِدَ يتيما، وعلى عادة العرب أرسله جدُّه إلى البادية ليسترضع في بني سعد، وكانت حاضنته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيمًا في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم، حتى ردوه إلى جده عبد المطلب وهو في نحو الخامسة من عمره، ولم تلبث أمه آمنة أن توفيت في الأبواء ـ بين مكة و المدينة ـ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجاوز السادسة بثلاثة أشهر، وقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رعاية جده عبد المطلب، وكان يحبه ويعطف عليه، فلما مات عبد المطلب كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثامنة من عمره، فقام عمه أبو طالب بكفالته، فكان خير عون له في الحياة بعد موت جده، وكان أبو طالب سيدًا مطاعًا في قومه، مع ما كان عليه من الفقر، وكان يحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبا شديداً، ويؤثره على أبنائه، وقد عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برعي الغنم، مساعدةً منه لعمه، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟، فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أكنت ترعى الغنم؟ فقال: ( نعم، وهل من نبي إلا رعاها ) رواه البخاري، ثم بعد ذلك اشتغل - صلى الله عليه وسلم ـ بالتجارة .

وفي ليلة مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأت أمه نوراً خرج منها أضاء لها قصور الشام، فقد روى ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية، وصححه الألباني: " جاء نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك، قال: ( نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر ) .
قال ابن رجب: " وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(المائدة الآية: 15 : 16)، وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف الآية:157) ".
وعن حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( والله، إني لغلام يفعةٌ ، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلَّ ما سمعت، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمةً (حصن ) بيثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به ) رواه البيهقي وصححه الألباني .
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: " قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فأرجع فصدقه واتبعه " .

لقد كانت مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل على موعد مع أمر عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية كلها، وسيظل يشرق بنوره على الكون كله، إنه ميلاد النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي كان مولده ميلاد أمة سعدت بميلادها الأمم، إذ هدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح الله به أعينًا عميًا، وقلوبًا غُلفًا، إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الرحمن، وصفوة الأنام، أعظم الناس أخلاقًا، وأصدقهم حديثًا، وأحسنهم وأكثرهم عفوًا، خير من وطئ الثرى، سيد ولد آدم، أول من تنشق عنه الأرض، وأول من تُفتح له الجنة، قال عنه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: " ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كأن الشمس تجري في وجهه "، وسئل البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: " أكان وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل السيف؟، قال: لا، بل مثل القمر " .
وقالت أم معبد في بعض ما وصفته به: " أجمل الناس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب "،
وفي حديث ابن أبي هالة: " يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر " .
وقال عنه حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ :

وأفضل منك لم تر عيني وأحسن منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءا من كل عيب كأنك خُلِقْتَ كما تشاء

وقال عن مولده عمه العباس ـ رضي الله عنه ـ :

وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الضِّيَاءِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

وقال أحمد شوقي :

وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياء وفمُ الزمانِ تَبَسُّمٌ وثناءُ
الروحُ، والملأ، الملائِكُ حوله للدين والدنيا به بُشَراءُ
بك بشر اللهُ السماءَ فزينت وتضوعت مسكا بك الغبراءُ
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضَّاء

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة