الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الدعوة.. تشخيص الداء ومعرفة الدواء

الدعوة.. تشخيص الداء ومعرفة الدواء

الدعوة.. تشخيص الداء ومعرفة الدواء

الدعوة عمل عظيم، وواجب ثقيل، وهو أعظم الأعمال أو من أعظمها، والقائمون به هم صفوة الخليقة، اختارهم الله للقيام بهذه المهمة من بين الناس، فرفع بها أقدارهم وأعلى بها شأنهم في الدنيا والآخرة...

على أن الدعوة تحتاج إلى علم وكفاءة: علم بمفهوم ما يدعى إليه، وما يطلب التزامه، ويمكن أن نجمل هذا في أنه علم بالإسلام وأركانه وخصائصه وأنظمته ومقاصده.. وأما الكفاءة فهي القدرة على تبليغ هذا العلم للمدعوين وإقناعهم بالتزامه، وبعد ذلك التمسك به وجعله منهج حياة..

أساليب ووسائل:
وهذه الكفاءة لابد فيها من علم بأمرين مهمين:
الأول: هو أساليب الدعوة، والثاني: هو وسائل الدعوة.
ونعني بأساليب الدعوة: العلم بكيفية وطرق مباشرة التبليغ وإيصال المعلومة وإزالة العوائق من أمام المدعو ليقبل على الدعوة ويقبلها.
وأما الوسائل: فهو ما يستعين به الداعي لتبليغ دعوته.

والمربي الحريص صاحب الكفاءة هو الذي يعرف مكنونات النفس البشرية وطبائعها وميولها، ويحدد أسباب الداء الذي أصابها، ثم يشرع في وصف الدواء الملائم من خلال أحكام الشريعة وفضائها.

فإذا كان أطباء الأبدان يلزمهم لمعالجة أمراضها أن يعرفوا داءها، وأن يصفوا الدواء الملائم الناجع لها، فكذلك الدعاة هم أطباء القلوب، وهي تمرض كما تمرض الأبدان بل أشد، فإذا أراد الداعية أن يعالج قلبا مريضا، فلابد له أن يعرف علته ثم يختار الدواء الملائم لهذه العلة ليعالج مرضها ويشفي سقمها.

أصل داء القلوب:
واصل أدواء القلوب هو الكفر بالله تعالى، والجهل به سبحانه والإعراض عنه وعن عبادته سواء كان إعراضا كاملا أو ناقصا، ويكون النقص بقدر الجهل بمنهاج رسوله البشري والبعد عنه أو عدم الالتزام به.

وكذلك من أصول الأدواء إنكار البعث والكفر بيوم الدين، (كما هو حال الكفار حقيقة) أو الغفلة عن الآخرة، والاغترار بالدنيا. وبقدر ما يوجد من الداء بقدر ما يكون الأذى والشر والمفاسد، وتكون الحياة التعيسة والمعيشة الضنك، وإذا وجد البعض وجد البعض.

وكما أن أصل الداء هو الكفر والغفلة عن الله والدار الآخرة والاغترار بالدنيا.. فإن أصل الدواء هو الإيمان بالله والرضا به ربا مالكا مدبرا، وإلها فردا معبودا، وحكما مقسطا، والكفر بالطواغيت بكل معانيها ومظاهرها، والرضا بالشرع والنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإن تطيعوه تهتدوا}.

ثم بعد ذلك الرغبة في الآخرة والرغبة عن الدنيا؛ بأن تكون في اليد ولا تستأثر بالقلب، فإن الاغترار بالدنيا ضيع على أكثر الناس حظهم من الله والدار الآخرة.. طال أملهم فيها فسوفوا العمل؛ فأخذوا بغته ولهم لا يشعرون.

ومن هنا كانت الدعوة إلى العقيدة وما تستلزمه وتتضمنه هو أساس عمل الدعاة، وأول ما يتوجه به إلى المدعوين.. فإذا قبلها المدعو وآمن بالله تعالى ورضي به ربا وقبل رسالة رسوله، فما بعد ذلك فروع له، يسهل القبول له والعمل به.. أما إذا رفض الإيمان ولم يقبل به فما بعد ذلك أولى بالرفض وعدم العمل.

هذا هو النهج القرآن، والنهج النبوي، والقرآن عندما ذكر رسالات المرسلين والنبيين إلى أقوامهم وحكى عن دعوتهم بان لنا أن أول ما كانوا يدعون إليه هو العقيدة والإيمان، فكانت هي فاتحة رسالاتهم؛ كما حكى عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب كما في سورة الأعراف وفي سورة هود وغيرها فكانت كلمتهم جميعا: {ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وقد جاء هذا عن نبينا أيضا صلى الله عليه وسلم.
وكانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم للدعاة أن تكون الدعوة للتوحيد هي مفتاح الدعوات وبها تكون البداية فعندما أرسل معاذا إلى اليمن قال له : [إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله] أو قال أن يوحدوا الله. متفق عليه.

الدعاة ومشاكل الأمة
وإذا كانت الدعوة إلى التوحيد هي لب الدعوات وخلاصة الرسالات فليس معنى هذا أن يتغافل الداعية عن أمراض أمته ومشكلات قومه، أو أن ينأى أو يتغافل عن مفاسد الناس.. بل كانت معالجة المشاكل ومحاربة المفاسد من لب رسالات الرسل أيضا؛ فقد دعوا عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين إلى إصلاح الحياة ونددوا بمثالب أقوامهم؛ فهذا لوط عليه السلام يحارب جريمة قومه الكبرى (اللواط)، ومصيبتهم العظمى في قطع الطرق على الناس، وإتيان المنكر في نواديهم ومجتمعاتهم {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}(العنكبوت:28ـ29)

وهذا شعيب يعظ قومه ويدعوهم للإيمان بربهم وخالقهم سبحانه، وفي ذات الوقت ينهاهم عن تطفيف الكيل والميزان، والغش في وأكل أموال الناس بالباطل، {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(هود:85)

وهذا هود وصالح عليهما السلام يأمرون أقوامهم بالإيمان برسالات الله وينهونهم عن العلو في الأرض والعتو على الخلق فقال هود: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون}(الشعراء:)

وإنما المراد هو الاهتمام بالعقيدة وبيان أن كل مفسدة في الأرض فإنها ناتجة عن عدم الإيمان بالله وعدم الرضا بشريعته والخروج عن طاعته، وإغفال الإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والعقاب. فالبداية العقيدة ومعها يكون إصلاح حال الناس وبها كذلك تقوم حياتهم.

أما الابتعاد عن هذا النهج والانجرار إلى ما يهواه الناس أو مجرد ما يستحسنونه فهو نهج خاطئ يجر الداعية إلى معارك وهمية، وسفسطة كلامية لا تعود على الدعوة بشيء بل ربما تصرف الناس عنها كليا أو جزئيا. والنتيجة ضياع الجهود، والفشل في بلوغ الغاية، أو وجود أتباع مسخ لا يعرفون حقيقة الإسلام والإيمان الذي أمروا باتباعه.

إننا نحتاج أن نعود بالدعوة إلى نبعها الصافي ومصدرها الأصيل، فإن العبد إذا تعلم الإيمان ثم تعلم بعده القرآن والعمل ازداد علما كما قال ابن عمر تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا علما.

فاللهم ألهمنا رشدنا، وخذ بناصيتنا إليك، واهدنا واهد عبادك لما تحب وترضى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة