الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس

المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس

المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس

المرسلَ الخفي هو قسيم الحديث المرسل، وتوصيفه أنْ يضيفَ الراوي إلى من عاصرهُ ولم يلقهُ حديثاً بلفظٍ موهمٍ للسماع، ويصف العلائي في "جامع التحصيل" هذا النوع من الأحاديث بأنه "نوع بديع من أهم أنواع علوم الحديث، وأكثرها فائدة، وأعمقها مسلكاً، ولم يتكلم فيه بالبيان إلا حذاق الأئمة الكبار، ويدرك بالاتساع في الرواية، والجمع لطرق الحديث مع المعرفة التامة والإدراك الدقيق".

والحديث المرسل كما عرَّفه علماء الحديث هو الحديث الذي رواه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. وقد قيده بعضهم بالتابعي الكبير، بينما جعله بعضهم عامًّا، كما قال الخطيب: المرسل هو ما انقطع إسناده. إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال هو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيسمونه المعضل، وهو أخفض مرتبة من المرسل.

والفرق بين الحديث المرسل والمرسل الخفي أن المرسل هو أن يروي الراوي عمن لم يدركه، ويسمى مطلق الإرسال، أما المرسل الخفي فهو أن يروي الراوي، أو يُرسل عمن عاصره، ولم يسمع منه، وحكم الحديث المرسل هو الانقطاع والرد عند معظم المحدثين، وهو على عدة أنواع كما سيأتي، وبعضها أشد من بعض، فكل مرسل خفي منقطع، وليس العكس.

طرق معرفة المرسل الخفي

لمعرفة الحديث المرسل الخفي عدة طرق منها:

أولاً: عدم اللقاء بين الراوي والمروي عنه، أو عدم السماع منه، وهذا هو أكثر ما يكون سبباً للحكم، ويكون تارة بمعرفة التاريخ، وأن هذا الراوي لم يدرك المروي عنه بالسن بحيث يتحمل عنه، ويكون تارة بمعرفة عدم اللقاء، كما في رواية الحسن البصري عن أبي هريرة، فإنه معاصره، ولكنه لم يلقه؛ إذ لما جاء أبو هريرة إلى البصرة كان الحسن في المدينة، ولما رجع الحسن إلى البصرة كان أبو هريرة رضي الله عنه بالمدينة، فلم يجتمعا. وتارة يكون ذلك لأنه لم يثبت من وجهٍ صحيح أنهما تلاقيا مع تحقق المعاصرة بينهما، فالحكم بالإرسال هنا إنما هو على اختيار ابن المديني والبخاري وأبي حاتم الرازي وغيرهم من الأئمة، وهو الراجح، كما تقدم، دون القول الآخر الذي ذهب إليه مسلم وغيره من الاكتفاء بالمعاصرة المجردة وإمكان اللقاء.

ثانياً: أن يذكر الراوي الحديث عن رجل، ثم يقول في رواية أخرى: نُبئتُ عنه، أو: أخبرت عنه، ونحو ذلك.

ثالثاً: أن يرويه عنه ثم يجيء عنه أيضاً بزيادة شخص فأكثر بينهما، فيحكم على الأول بالإرسال، إذ لو كان سمعه منه لما قال: (أخبرت عنه) ولا رواه بواسطة بينهما، وفائدة جعله مرسلاً في هذا الطريق الثالث أنه متى كان الواسطة الذي زيد في الرواية الأخرى ضعيفاً، لم يحتج بالحديث، بخلاف ما إذا كان ثقة، وأما الطريقان الأولان فيجيء فيهما الخلاف المتقدم في الاحتجاج بالمرسل. ثم لا بد في كل ذلك أن يكون موضع الإرسال قد جاء فيه الراوي بلفظ (عن) ونحوها، فأما متى كان بلفظ (حدثنا) ونحوه، ثم جاء الحديث في رواية أخرى عنه بزيادة رجل بينهما، فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد. ويكون الحكم للأول.

وللخطيب البغدادي في هذين النوعين كتابان مفردان، أحدهما (التفصيل لمبهم المراسيل) والثاني (تمييز المزيد في متصل الأسانيد) وهو أن يزيد راوٍ في الإسناد رجلاً، لم يذكره غيره. وذكر الإمام ابن الصلاح أن في كثير مما ذكره الخطيب في (تمييز المزيد) نظراً، قال: "لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظ (عن) في ذلك فينبغي أن يحكم بإرساله، ويجعل معللاً بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد إن كان فيه تصريح بالسماع، أو بالإخبار، فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجلٍ عنه، ثم لقي الأعلى فسمعه منه بعد ذلك، كما جاء مصرحاً به في غير موضع، يعني: ويكون روايته بزيادة الواسطة قبل أن يلقى الأعلى، قال: اللهم إلا أن توجد قرينةٌ تدل على كونه وهماً".

ويحتمل أيضاً أنه حالة روايته الحديث نازلاً يذكر المزيد، لم يكن ذاكراً لسماعه له عالياً دونه، ثم تذكّر ذلك فرواه عن الأعلى، وقد ذكر ابن الصلاح في آخر كلامه على هذين النوعين، أنهما متعرضان؛ لأنه يعترض بكل منهما على الآخر وهو كما ذكر، فإن حكمهم على أفراد هذين النوعين مختلف اختلافاً كثيراً كما سنبينه.

وحاصل الأمر أن ذلك على عدة أقسام

أولها: ما يترجح فيه الحكم بكونه مزيداً فيه، وإن الحديث متصل بدون ذلك الزائد (الأصل في صحته بدون الزيادة).

ثانيها: ما ترجَّح فيه الحكم عليه بالإرسال، إذا روي دون الراوي المزيد (الأصل في صحته مع وجود الزيادة) والحكم بالزيادة تارة يكون للاعتبار برواية الأكثر، وتارة للتصريح بالسماع من الأعلى، وتارة لقرينة تنضم إلى ذلك إلى غيرها من الوجوه، وهي كلها جارية في القسم الثاني، الذي يُحكم فيه بالإرسال إذا لم يذكر فيه المزيد، وله أمثلة كثيرة. وحاصل الأمر فيها أن الراوي متى قال: (عن فلان) ثم أدخل بينه وبينه في ذلك الخبر واسطة، فالظاهر أنه لو كان عنده عن الأعلى لم يدخل الواسطة، إذ لا فائدة في ذلك، وتكون الرواية الأولى مرسلة، إذا لم يُعرف الراوي بالتدليس، وإلا فمدلَّسة، وحكم المدلَّس حكم المرسل.

ثالثها: ما يظهر فيه كونه بالوجهين، أي: أنه سمعه من شيخه الأدنى، وشيخ شيخه أيضاً، وكيف ما رواه كان متصلاً. وتظهر تارة كونه عند الراوي بالوجهين ظهوراً بيناً بتصريحه بذلك، ونحوه، وتارة يكون ذلك بحسب الظن القوي، وله أمثلة كثيرة مصرح فيها: أن الحديث عند الراوي على الوجهين، ولا إشكال في ذلك. ومنه أيضاً ما إذا اختلفت رواية المتن؛ فكان بتمامه بالواسطة، وروى بعضه دون الزائد، أو بالعكس، فإنه يظهر والحالة هذه أن كل رواية على حدة.

رابعها: ما يُتوقّف فيه؛ لكونه محتملاً لكل واحدٍ من الأمرين. وأمثلته قريبة من هذا، لكن احتمال كونه على الوجهين ليس قويًّا، بل هو متردّد بين الإرسال بإسقاط الزائد وبين الاتصال، والحكم بكونه مزيداً فيه. والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً، ولا يخفى على الممارس الفطن إلحاق كل واحد بما يقتضيه نوعه.

علاقة الإرسال الخفي بالتدليس

(التدليس) مشتق من الدلس وهو الظلمة، وأصله التغطية والتلبيس، ومعناه كتمان عيب الشيء، وهو أخو الكذب. ومعناه اصطلاحاً كما قال ابن عبد البر: أن يكون الراوي قد لقي شيخاً من شيوخه، فسمع منه أحاديث لم يسمع غيرها منه، ثم أخبره بعض أصحابه ممن يثق به عن ذلك الشيخ بأحاديث أخرى غير التي سمع منه، فحدث بها عن الشيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدثه بها، فيقول فيها: عن فلان، ويعني ذلك الشيخ.

والتدليس على قسمين أساسيين: الأول: تدليس الإسناد: أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه قد سمعه منه، فيقول: عن فلان، أو قال فلان، وهو على أقسام يطول تفصيلها ولهذا نكتفي بذكرها: وهي تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس، وصورته أن يروي المدلس عن شيخ ثقة، وهذا الشيخ الثقة يروي عن شيخ ضعيف، وهذا الضعيف يروي عن ثقة، فيُسقط الراوي الضعيفَ من بين الثقتين، ويسوي الإسناد كله ثقات، وقد اشتهر بهذا النوع الوليد بن مسلم. ومنه تدليس العطف، وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه عن شيخ اشتركا فيه، ويكون قد سمع ذلك من أحدهما دون الآخر، فيصرح بالسماع من الأول، ويعطف الثاني عليه، بأن يحدث بالسماع عن الأول، ثم يعطف الثاني ويقول: وفلان، أي فلان حدَّث. وتدليس القطع، وصورته أن يقول: حدثنا، ثم يسكت، ثم ينوي القطع، ثم يذكر إسناداً، فيظن السامع أن الإسناد متصل.

أما القسم الثاني من التدليس فهو تدليس الشيوخ، وهو أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه، فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يُعرف به؛ كي لا يُعرف. وهذا ليس له علاقة بالإرسال.

ومن هنا فإن تدليس التسوية هو الذي يشبه الإرسال الخفي، حتى أن بعض العلماء قال: إن تدليس التسوية هو نوع من الإرسال، إلا أن الفرق بين التسوية والإرسال واضح، وذلك أن التسوية يوهم السامع أنه سمع منه؛ لأنه لقيه وسمع منه أحاديث أخرى غير هذا الحديث، بخلاف الإرسال، فإنه يرسل عمن لم يلقه أصلاً.

وتفصيل ذلك، أن تدليس التسوية هو أن يروي الراوي عن شيخ عاصره ولقيه وسمع منه بعض الأحاديث، ثم روى عنه أحاديثَ أخرى لم يسمعها منه موهماً أنه سمعها منه، هذا تدليس التسوية. أما المرسل الخفي فهو أن يروي الراوي عن شيخ عاصره، ولم يسمع منه أحاديث لم يسمعها منه، فيظن من سمعه أنه سمعها منه لأنه عاصره. فقوله: عمن عاصره، يعني أنه لم يلقه ولم يسمع منه، وهذا ليس من التدليس في شيء، وإنما هو من المرسل، وسمي بالمرسل الخفي للتفريق بينه وبين المرسل الذي يروي الراوي فيه عن شيخ لم يعاصره ولم يلقه، فالجامع بينهما أنهما لم يلتقيا، والفرق أن المروي عنه في المرسل الخفي كان معاصراً، بينما المروي عنه في المرسل ليس معاصراً له.

وبعض العلماء يفرق بينه وبين المدلَّس وبعضهم يجعله داخلا فيه، وممن فرق بينهما الحافظ ابن حجر حيث قال: "والفرق بين المدلَّس والمرسل الخفي دقيق، وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عُرِف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يُعرف أنه لقيه، فهو المرسل الخفي، ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لقي لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه، والصواب التفرقة بينهما، فالمعتبر هو اللقاء".

ويدل على أن اعتبار اللقي في التدليس دون المعاصرة وحدها إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كـأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الإرسال، لا من قبيل التدليس، ولو كان مجرد المعاصرة يكتفى به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يُعرف هل لقوه أو لا. وممن قال باشتراط اللقاء في التدليس الإمام الشافعي وأبو بكر البزار، وكلام الخطيب في "الكفاية" يقتضيه وهو المعتمد، فإذا لم يُعلم لقاؤه، لا يكون حجة حتى يأتي بلفظ سماع أو حديث، وهو المختار؛ لأن العنعنة لا تقتضي السماع، لكن إذا ثبت اللقاء ترجح، وهو باب واسع يطول تفصيله، وهو في مظانه من كتب مصطلح الحديث لمن أراد المزيد.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة