الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نقد الحديث بين المدح والقدح

نقد الحديث بين المدح والقدح

نقد الحديث بين المدح والقدح

موضوع نقد الحديث من حيث المتن أو الإسناد كان وما يزال من أهم الموضوعات وأكثرها إشكالية في علم الحديث؛ ذلك أنه قد يتكلم فيه المتخصصون وغيرهم، بل قد يتحدث فيه أصحاب الأهواء الذين لا يعنيهم علم الحديث أصلاً، إنما همهم الوصول إلى ما يمكن من خلاله الطعن في بعض الأحاديث، وهو ما قام به المستشرقون وأتباعهم في الآونة الأخيرة، الذين ما فتئوا يحاولون بكل طاقتهم الطعن والتشكيك من أجل الوصول إلى إنكار السنة وحجيتها، أو التقليل من أهميتها، بدعوى أن الدين مصدره القرآن وحده؛ وذلك من أجل القضاء على الإسلام، وتشويه صورته عند أتباعه. وتعود خطورة البحث في موضوع نقد الحديث إلى زاوية الرؤية التي ينظر منها الباحثون في مثل هذا المجال، وهناك العديد من الدراسات الجادة في الآونة الأخيرة تناولت هذا الموضوع من كل أبعاده من ناحيتيه النظرية والتطبيقية.

قبل كل شيء النقد في اللغة هو تمييز الدارهم، وإخراج الزيف منها، كما في "لسان العرب" وغيره، وقال الفيروزأبادي: نقد الشيء: نقره ليختبره، أو ليميّز جيده من رديئه، وهو في الاصطلاح بمعنى تمييز الصحيح من السقيم. وتبدأ عملية نقد الحديث عند أئمة هذا الشأن بعد جمع طرقه وإمعان النظر فيها، كما قال الإمام علي بن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه، وقال يحيى بن معين: لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه.

وتتجلى أهمية البحث في مثل هذا الموضوع في أنه يعرفنا بجهود علماء الجرح والتعديل في نقد الحديث بشقيه، المتن والإسناد، وأنه كان عندهم من أهم ركائز الحكم على الأحاديث، والرد على من يقول بإغفال علماء الحديث لنقد المتن، والتأكيد على أن كتب العلل مليئة بما يدل على اهتمامهم به، وبيان مدى عنايتهم بالمتن، ومعرفة الأسباب الموجبة لنقده عندهم، وحدود ذلك، ومدى ملاءمة المعايير النقدية التي وضعها العلماء المتقدمون مع التي وضعها العلماء المعاصرون فيما يخص هذا الشأن.

قام علم نقد الحديث عند أئمة هذا الشأن منذ الأيام الأولى على منهج علمي متين، يمكن إبرازه في ثلاث نقاط، هي: إذا كان الراوي من المكثرين، فيتم جمع طرق حديثهم التي انتشرت بين تلاميذهم، ليعرف منهم الضابط الصادق، من الواهي الكاذب، وهو ما عبر عنه الإمام ابن المبارك في قوله: "إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض". أما إذا لم يكن الراوي من المكثرين، فيُسبر حديثه، ويعرض على أحاديث آخرين، كما قال أيوب السختياني: "إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره".

وما ينبغي التركيز عليه في هذا المقام يكمن في محاولة الإجابة عن بعض التساؤلات والتي منها: ما أهم الأسباب التي كانت توجب نقد الحديث عند علماء الجرح والتعديل؟ وما الأساليب التي كانوا يتبعونها في ذلك؟ وما أثر تلك الأسباب في حكمهم على الرواة، بشكل خاص، أو على الحديث بشكل عام من حيث متنه وإسناده، بالصحة أو الضعف؟ وما هي حدود نقد المتن التي كانوا يهتمون بها؟ وما هو النقد الغير مقبول عندهم؟

كما هو معلوم، فإن هناك قواعد ثابتة عند علماء الحديث تتعلق بالراوي من حيث عدالته وضبطه، وهناك متعلقات بالرواية من حيث المتن، أو الإسناد، أو من حيث المتن والإسناد جميعاً، فصحة الحديث سنداً ومتناً لا تعني عند المحدثين أكثر من صلاحيته لاستنباط الأحكام منه، وأنه صالح للعمل أو لا، بناءً على صحته أو ضعفه، أو وجود ما يعارضه، وإمكان درء التعارض بينهما إن وجد، أو عدم إمكانية ذلك.

كان علم نقد الحديث عند أئمة هذا الشأن يعتمد على طول الخبرة وطول الممارسة، وعلى الذوق، وهناك قصة لطيفة حول هذا المعنى نقلها عبدالرحمن بن أبي حاتم: عن أبيه قال: "جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي، ومعه دفتر فيه أحاديث، فعرضه عليَّ. فقلت في بعضه: هذا خطأ، وفي بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه، هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ هل تدعي الغيب؟ قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلتُ لك من يحسن مثل ما أحسن؟ فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف، ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم، قال هذا عجب. فأخذ ما قلته له حول تلك الأحاديث، وذهب إلى أبي زرعة، فأجابه بمثل ما قلتُ له، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة منكما، فقلت: فقد ثبت من ذلك أننا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا. والدليل على صحة ما نقول: بأن ديناراً مزيفاً يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار مبهرج، ويقول للدينار الجيد: هذا جيد، فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا مبهرجاً؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك".

وتقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويُعلم سقمه وإنكاره، وقد يتفرد من لم تصح عدالته بروايته، ومن هنا فإن نقد الحديث قد يُطلق ويراد به أحد المعاني التالية: إما التوفيق بين متن هذه الرواية وما يعارضها، سواء عارضه حديث أم آية أم قاعدة، أم مفهوم عقلي صحيح، وقد يقصد به كذلك ترجيح بعض المتون على بعض، وقد يقصد ترك العمل بالحديث المقبول بناء على وجود معارض هو أقوى منه، أو مخالفته للعقل، وهذا يعني أن هناك وجهة نظر حديثية وأخرى فقهية للنظر إلى متون الأحاديث، وهذه القواعد نفسها تحتوي على قواعد علم مختلف الحديث، الذي هو أحد مفردات علم مصطلح الحديث، وقد يسمى أحياناً بعلم مشكل الحديث، وهو يعرض لمشكل الحديث الذي تَعَارض ظاهرُه مع نص شرعي أو قاعدة فقهية.

ولا يخفى أن هذا من وجهة النظر الفقهية، وليس من وجهة نظر أهل الحديث، وإنما تكون دراسة المحدثين لقواعد الترجيح مما هو متعلق بالصنعة الحديثية لا الفقهية، وقد عبَّر الحافظ ابن حجر عن ذلك بكل دقة عندما قال: "ثم المقبول أيضاً ينقسم أيضاً إلى معمول به وغير معمول به"، ثم بيّن أن سبب عدم العمل به هو المعارضة، ولم يصرح بمن يحكم بصلاحية الحديث المقبول من الروايات للعمل أو الترك، إلا أنه بين القواعد الناظمة لدرء التعارض، وما هي في حقيقتها إلا قواعد أصول الفقه من الدلالة والبيان والنسخ وقواعد التعادل والترجيح. ويفهم من هذا أن النظر الفقهي هو الذي يحكم بالعمل والترك، وهو دور المجتهد، وحول الفصل في هذا المعنى يقول الإمام ابن حبان: "عندي أن الثقات الحفاظ إذا حدثوا من حفظهم، وليسوا بفقهاء، لا يجوز الاحتجاج بحديثهم؛ لأن همتهم حفظ الأسانيد والطرق دون المتون"، قال: "وأكثر من رأينا من الحفاظ كانوا يحفظون الطرق، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها"، قال: "ومن كانت هذه صفته، وليس بفقيه، فربما يقلب المتن، ويغير المعنى إلى غيره، وهو لا يعلم، فلا يجوز الاحتجاج به إلا أن يحدث من كتابه، ويوافق الثقات".

أما رؤية أهل الحديث فقد روى الرامهرمزي عن الربيع بن خثيم قال: "إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل". وروى أيضاً عن الأوزاعي قال: "كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا، كما يعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروا منه تركناه".

وهذا النقد منهم لم يكن موجهاً إلى النقد الخارجي، أي نقد السند فحسب، بل يشمل نقد الإسناد والمتن جميعاً، وإن كان المحدثون وجهوا عنايتهم إلى نقد الإسناد أكثر مما وجهوه إلى نقد المتن، لأسباب يصعب حصرها في هذا المقام، وقد تحدث كثيرون حول هذا الشأن، وأحيل القارئ الكريم بهذا الخصوص إلى ما ذكره الدكتور الأعظمي في كتابه الرائع "منهج النقد عند المحدثين نشأته وتاريخه"، حيث أجاد فيه وأفاد.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن اهتمام المحدثين بالسند لم يكن من أجل السند نفسه، وإنما لكونه الطريق التي توصلنا إلى المتن، ولذلك كان مفهوم النقد الحديثي عند الصحابة وكبار التابعين يختلف عنه عند من كان بعدهم؛ لانعدام الإسناد، بعكس ما فيما بعد عند الرواة من ضرورة البحث في مسألتي عدالة الرواة وضبطهم.

هذا، وتكمن مشكلة نقد المتن عند المتأخرين أنهم يقسمون السنة إلى ما هو مقبول وما هو مردود، وأن عدداً ليس باليسير من الأحاديث المقبولة تتعارض مع أحاديث أخرى مقبولة، وقد تتعارض مع بعض النصوص القرآنية، أو مع بعض القواعد الفقهية، أو القضايا العلمية، ولا شك أن بعض حالات التعارض تدخل تحت ما يمكن تسميته بالتعارض من حيث الظاهر، وهذا النوع يسهل التعامل معه من حيث إزالة ذلك التعارض الظاهري، ولكن المشكلة تبقى في بعض الحالات التي يكون التعارض فيها حقيقيًّا، وذلك ما قد يوجد في أحاديث الآحاد. والملاحظ هنا أن المحدثين لا يستعجلون في رد هذه الأحاديث كما هو الحال بالنسبة للفقهاء، الذين يعدون أكثر جرأة من المحدثين، حيث يشترطون شروطاً للعمل بالحديث، قد تتجاوز كونه مقبولاً من حيث إسناده، ما يجعلهم يردون بعض الأحاديث (خاصة الآحاد منها) رغم أن المحدثين قد حكموا عليها بالصحة أو القبول. وهو إشكال حقيقي يحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب، تصعب الإجابة عنه في مثل هذا المقال.

ثم إن المعاصرين من علماء الحديث وغيرهم قد استعملوا مصطلح (نقد المتن) لأكثر من معنى؛ من تلك المعاني محاولتهم التوفيق بين متن الحديث المقبول وما يعارضه، سواء في ذلك آيات القرآن الكريم، أو الأحاديث الصحيحة، أو القواعد الفقهية أو بعض القضايا العلمية، ومحاولتهم ترجيح بعض المتون على بعض. واستعملوه كذلك عند ضرورة ترك العمل بحديث ما، أو رده، في الوقت الذي كان علماء الحديث قد حكموا عليه بأنه مقبول. أو عند انتقادهم لبعض المتون التي تبدو في ظاهرها أنها مقبولة المعنى، وهو موضوع يكثر الكلام فيه في هذه الأيام، وهو في مظانه من كتب المعاصرين من علماء الحديث وغيرهم.

أقول في ختام هذا المقال: إن البحث في (نقد الحديث) قبولاً وردًّا إنما هو من اختصاص علماء الحديث دون غيرهم، وأن هناك قواعد وموازيين شرعيّة يمكن من خلالها الحكم على الأحاديث النبويّة؛ صحيحة أم سقيمة، ومن أهمها: عرض الحديث على القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فإن وافقهما قُبِل، وحُكم عليه بالصحة، وإلا وجب البحث والتنقيب عنه، ووضعه تحت النقد. ومنها مخالفة الحديث للإجماع القطعيّ الذي لا يقبل التأويل. وهو منهج معمول به عند أهل الفقه، وهو ما يُعرف بـ (ما تعم به البلوى). ومنها ركاكة لفظ الحديث، أو فساد معناه، أومخالفته للسنن الإلهية، أو الحقائق العلمية والتاريخيّة، أو ما يؤيد بعض البدع، وهو ما عبر عنه قول الصحابي ابن عباس رضي الله عنهما: (كنّا نحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ لم يكن يُكذّب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه، ولم نأخذ من الناس إلا ما نعرف) وقول ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر الى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر الى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة