الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

برهان قذائف الحق وزهوق الباطل

برهان قذائف الحق وزهوق الباطل

برهان قذائف الحق وزهوق الباطل

{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الأنبياء:18) {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (الفرقان:33) {قل فلله الحجة البالغة}(الأنعام:149) {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } (الأنعام:148)، {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } (البقرة:111).

في ميدان القتال بالسنان من الوارد أن يلحق بعض المسلمين شيءٌ من الهزائم الظرفية فالحرب بيننا وبين الكفار سجال على حد ما قال أبو سفيان-رضي الله عنه- لهرقل وإن كان الأصل هو الظفر والغلبة لصالح المؤمنين، ولكن في ميدان الحجاج بالبرهان بين أهل الإسلام وغيرهم من ملل الكفر، يمتنع أن تلحق الهزيمة بأهل الإسلام قط، وقل مثل ذلك عن أهل السنة والجماعة قبالة سائر الفرق المنحرفة المنتسبة للإسلام-بصرف النظر عن صدق النسبة من عدمها- فإنه يمتنع في أي مناظرة منصفة أن تقع الغلبة للبدعي على السني، كما يمتنع أن يظهر الكافر على المسلم في أصول الحجاج مهما كانت ملة الكافر، وكائنا ما كانت ثقافته وسعة علمه ودهاؤه، مادام الطرف المسلم ثقفًا بدينه عارفًا ببراهينه ومحالّ البحث ..وإن كان محتاجًا في كثير من الأحيان إلى أن يعرف ما عليه الخصم من عقائد ليُظهر تناقضه ويبيّن للناس ما فيها من فساد إن اقتضى الأمر بحسب موضوع المناظرة، أخرج ابن سعد في الطبقات عن أمير المؤمنين عمر: " قد علمتُ وربك الكعبة متى تهلك العرب إذا ساس أمرهم من لم يصحب الرسول ولم يعالج أمر الجاهلية(1)" ، وقد بين رب العزة في معرض الاستدلال على الكفرة أن الحق من شأنه الاتساق والتناغم والتوافق، خلافا للباطل فيعروه –ولابد- من التناقض والتضارب بقدر ما فيه من مادة البعد عن الحق، فهذه سنة كونية تدل الناقد البصير على صدق الحق { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء:82)

يقول الإمام قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني : " وكان السبب في اتفاق أهل الحديث، أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف(2)"

وإليك البيان بشيء من التفصيل :

أصحاب الملل الكفرية المحضة أقربهم إلى الإسلام في الجملة : أهل الكتاب، وهؤلاء يشهد الواقع الملموس في عامة المناظرات المعقودة بيننا وبينهم قديمًا وحديثًا أنه ما من مناظرة بين مسلم مثقّف وعالمٍ منهم إلا والظفر حليف المسلم ،هو شيء لا تخطئه العين ولا يضام العقل في إبصار رجحان كفة الطرف المسلم وطيش كفة الطرف الكافر، والبون مع هذا جد شاسع، ومن أشهر ما يمكن التمثيل به مناظرات الشيخ الجليل أحمد ديدات رحمه الله تعالى والتي ما يزال كثير من الناس يسلم عند مطالعتها..وثمَّ كثيرٌ غيرَه بعده وقبله رفعوا لواء نصرة الإسلام وأبلوا بلاء حسنًا، وليس من مرامي هنا استقصاء الأسماء ..

هذه شهادة الواقع التي لا تقبل التكذيب، وهي تشبه من وجهٍ ما لو تقابل فريقا كرة قدم فكانت النتيجة مئة مقابل صفر، فلا تجد أحدا يمكنه دفع الفارق الساحق، إن شكك في "هدف" أو "هدفين" فأنى له أن يدفع عشرات "الأهداف "

فإذا استبنتَ ذلك في حالة النصارى ونحوهم، فالأمر من باب أولى مع سائر الملل الكفرية الوثنية، وهو أبلغ جلاء مع الملاحدة الذين ينكرون وجود الباري عز وجل ..فهنا ثلاثة أصناف في الجملة :

-أهل الكتاب
-الوثنيون من غير أهل الكتاب
-الملاحدة ونحوهم

أما أهل الكتاب فلديهم رسالة مشوهة، فيها مواطن من حق نعم، وفيها من ركام الباطل الكثير الهائل، فالجدال معهم يكشف عن هذه المواضع، ولا يجدون لها نظيرًا في الإسلام ليطعنوا عليه بل إنما يجدون فيه دلائل الحق وبراهين الصدق تنادي بأعلى صوت بصحة هذا الدين العظيم، وإنما قد يتعلقون بشبهات هنا وهناك يعرفها البصير ويكشفها غالبًا بأدنى جهد يسير، وليس من شرط الحق ألا تثار الشبهات حوله، بل كلما كان الشيء أحق بالحق كثر خصومه وأعداؤه { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } (الأنعام:112) ..فالجدال مع هذا الصنف كقتال صنديد مع آخر رعديد سلاحه في غاية الضعف والهزال ..أو كمجابهة أسد عظيم لغزال !

وأما الجدال مع الوثنيين كالبوذيين ونحوهم، فليس بأيديهم رسالة ذات معالم بيّنة لتكون محورًا لحوار، إنما هي أفكار فلسفية بائدة وطقوس ورثوها عن آبائهم فهم يصنعونها، لا غير، فصار الجدال معهم أشبه بالقتال مع غير مقاتل ..

وأما الجدال مع الملحد ونحوه فمداره من جهته أن ينفي الرب نفسه، ويتنكر لأصل العقل كما بيناه في مقال آخر، فكان في الصورة الظاهرية كالمهاجم غير أنه بلا سلاح !، فهو يتعلق بدعاوى النفي ..ولا يملك غيرها، فهؤلاء كما قررنا في اهل الكتاب يشهد الواقع باندحارهم في كل مرة، وإن توهم مَن توهم خلافه، وحاصل الظن عند أرباب الأوهام أن يأتي أحدهم بشبهة كأن يقول لماذا في الإسلام :شِرعة كذا وكذا، ثم يقع الغلط عند نصب مقدمة مغلوطة وهي تصوير : أن عدم تقديم جواب مقنع لهم في فهم الحكمة من كذا وكذا: يدل على بطلان الإسلام!، وهذا باطل في العقل ..إذ ليس من شرط الحق إذا بني على أسس أن يكون في عامة تفاصيله مُدرَك المعنى ..(سبق بيانه في مقال آخر )

إن مرد الانخداع بالملاحدة في جدالاتهم لا لقوة الحجة البتة، ولكن طريقتهم قائمة على التهويش بإثارة مسائل في التشريع كالجهاد والمرأة وأحكام الرق وما أشبه ،ثم التهويل العاطفي

ولا يخفى على الناقد البصير أن هذا ليس بشيء، ولو قد قيل في أجوبة ذلك كله لا ندري ما الحكمة التشريعية من ورائه لما كان هذا مخلخلا من ثبات ما قام على أدلة اليقين ولا مخلا من قوة البراهين التي نقيمها عليهم في ثبوت الرب وصحة الإسلام، فما ظنك ونحن نجيب على هذه الأغلوطات ؟

وحتى تفهم عمل الضوضاء الإلحادية جيدًا، ولا تغتر بالأشداق العريضة ..فكن على ذكر أن مدار حوار القوم على التصور العدمي،والتنكر للضروريات العقلية، وهو ما أسميه الكفر بالعقل، فكيف تُرى المرء إذا كفر بالآلة التي يكون بها الميز بين الحق والباطل، بين البرهان والشبهة، بين المطلق والنسبي، بين اليقين والوهم ؟ أي أن المعترك الجدالي معهم يدور حول محور بيان ما هو بيّن بداهة باتفاق عموم الإنسانية على مر التاريخ..فإذا أبصرت رجلا يناظر إنسانا على أن الشمس آية النهار ..ووجدت الآخر يناضل في الجحود لهذه الحقيقة الضرورية، فلن يدور في ذهن أدنى عاقل أن عنده شيئا ما وما قد يبدو للناظر من بعيد من احتدام الجدل بينهما إنما يغتر به الجهول الغِر ..بل سيتمثل قول الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيءٌ.............إذا احتاج النهار إلى دليل !

وإذا كان الوجود كله لا معنى له عند الملاحدة ولا حكمة من الحياة ولا غاية ومع هذا إن هو إلا تطور جبري لا يستند لفاعل واع، فإن دخولهم في جدال مع المؤمنين هو نفسه -لو تفكرت- :لا معنى له !، فيكون تناقضًا منهم يقضي بزهوق ماهم عليه دون النظر في فحوى الجدال..

وقد يقع في الوهم أنه يعكر على هذا المعنى ضعف بعض المسلمين في الحجاج أمام بعض الكافرين ..وعند التأمل في هذا النزر ينكشف لك السر ، فهؤلاء يغلب عليهم الجهل بالإسلام نفسه وإن كانوا منتسبين إليه، فإذا كان المرء جاهلا بتفصيل الحق كيف له أن يجادل عنه !؟

كما لا يعكر عليه أن يقال بأن للمناظرات أهلها وفنونها وليس كل من أوتي علما أمكنه أن يذب عن الحق، لأن المراد حال إهمال هذه العوامل بافتراض زوال المعوقات الخارجة عن أصل البيان أي بتقارب المتناظرين في هذه القضايا، ولهذا ترى أن موسى عليه السلام كان من دعائه قبل لقاء فرعون قوله"واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي"

فإن قيل :ما بال الهزائم قد تنال المسلمين في المعارك الحربية دون البرهانية ؟ فالسر فيه أن القتال العسكري نمط مختلف من المجابهة فتكون سنة النصر فيه ذات شرط مختلف فلابد فيه من عُدة التقوى فهي خير الزاد على مثل ذلك دون إغفال سائر أسباب القوة المقدورة{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...} (الأنفال:60)، وإلا فإن سنة الله تعالى لا تتخلف كذلك حتى في ميدان القتال بنصر المسلمين إذا هم حققوا شروط النصر "إن تنصروا الله ينصركم " (محمد:7) .فإذا تخلف شيء من الأسباب الكبرى لم يمنع هذا من وقوع انتصار نسبي بحسبه وفق مخرجات تفاعل السنن الإلهية وهذا دليل قائم برأسه، فعامة الفتوحات الإسلامية لم يكن المسلمون متصفين فيها بكثرة في عدد ولا عدة، وكان النصر عنوان الموقف في عامة المواقع، يقول الحبر اليهودي السموءل المغربي صاحب "بذل المجهود في إفحام اليهود"، في معرض بيان أسباب إسلامه " طلبت الأخبار الصحيحة .. وكانت تمر بي في هذه التواريخ أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته وما أظهر الله له تعالى من المعجزات وحباه به من النصر والتأييد في غزوة بدر وغزوة خيبر وغيرهما وقصة منشئه في اليتم والضعف ... وظهور الآية العجيبة في هزيمة الفرس ورستم الجبار معهم في ألوف كثيرة على غاية من الحشد والقوة بين يدى أصحاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهم يسير على حالة من الضعف وانكسار الروم وهلاك عساكرهم على يدي أبي عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ثم سياسة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعدلها وزهدهما"(3)

بل إن المواقع القليلة التي وقعت النكاية فيها من أحدٍ على بعض المسلمين كما وقع في أُحد، دل هذا الاستثناء عند دراسة ملابساته على صحة العموم السالف"إن تنصروا الله ينصركم"، وكما قيل :الاستثناء معيار العموم ..

وما قيل عن الإسلام بين الأديان يقال مثله عن أهل السنة والجماعة بين سائر الفرق الضالة المنتسبة للإسلام ..

والمقصود أن ظهور أهل الحق على غيرهم من كل ذي نحلة وملة، على نحوٍ لا يتخلف

لهو من أعظم الدلالة على أن هذا الحق يؤول إلى مرجع يتصف بالكمال المطلق، ولا يجوز عليه النقص، لأن الخطأ والتناقض ينشأ في الحقيقة عن النقص ومن هنا تدرك سرًا في أن الله تسمى بالحق، الذي يعني أنه ثابت في نفس الأمر، لا أن وجوده موقوف على استدلالنا عليه وإنما العقل دل عليه بعد ان أودع الله فيه خاصة أن يدل على الحق { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} (الحج:62)

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا (أنت الحق وقولك الحق)(4)

وقال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني "ومن أسمائه تعالى الحق وهو المتحقق كونه ووجوده وكل شيء صح وجوده وكونه فهو حق "(5)

ولإدراك هذا المعنى أقربه بصورة تجريبية وأخرى تجريدية ..

معلوم في لغة العلوم الحديثة كالفيزياء والكيمياء وغيرها أن هناك جملة من الحقائق في كل علم لولاها لما قام هذا العلم على ساق، ولما كان يصلح أن يكون علما منتظما في اتساق، ولنضرب مثلا بشيء يسير : من المقرر في الكيمياء أنك إذا وضعت حمضا على قاعدة فإن النتيجة أبدا : ملح + ماء ..فلو بقيت تجري من التجارب ما شئت، ففي كل مرة تخرج بهذا المُخرج وهو نتيجة مفهومة لتفاعل كيميائي تغيرت فيه الروابط ..هذه الحقيقة قس عليها ما شئت من أنواع الحقائق في هذا الفن، يخرج لك في المحصلة :علم الكيمياء ..ولو قُدّر لأكبر مشعوذ يدعي مثلا تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة أن يناظر دارسا للكيمياء لكانت النتيجة القطعية ظهور الكيميائي عليه وإن لم يكن عالما مبرّزا بل يكفي أن يكون مدركا لأصول العلم ..والسبب لا يرجع إلى عبقرية الكيميائي ولا فصاحته، ولكن إلى أنه إنما يذب عن حق، هذا الحق :ثابت في نفس الأمر ..فكانت الحجة في صالحه والظهور من نصيبه ..

وفي علم الرياضيات لو كان ثم قانون ثابت كأن يقال مثلا حاصل قسمة محيط أي دائرة على نصف قطرها يساوي العدد الطبيعي الثابت 3.14 ،أكانت دائرة صغيرة أو بالغة الكبر فلن يستطيع إنسان استبعد بنظره هذا المعنى أن يظهر في الحجة على من يثبته لثبوت دليله الدال على ثبوته في نفس الأمر.ومن هنا يمر بك أن تقف على قصص لنصارى أسلموا كان السبب في إسلامهم أن قالوا إن العقل السليم يمتنع فيه أن يكون 1+1+1=1 !، في إشارة منهم إلى بطان عقيدة التثليث الشركية.

فكذلك علم الدين والشريعة من باب أولى وأحرى {ليظهره على الدين كله} (الصف:9)، لأن عالم الرؤى والأفكار في النظر للحياة والتنظير لما يصلح الإنسان ويضره وما يحتاجه من تشريعات بحر لا ساحل له من الفلسفات وهو ناجم عن أهواء الناس وتباين طبائعها واختلاف أمزجتها وتفاوت عقولها، فلا يفصل فيه إلا الحكيم الخبير الذي يحيط علمه ببعدي الزمان والمكان، فحين أبصرنا كمال الشريعة وخلودها وصلاحيتها لكل الأعصار والأمصار وتناسقها الداخلي والبراهين الجمة المتكاثرة على صحتها- علمنا يقينا أن صاحب الشريعة هو الله جل ثناؤه .

هوامش المقال
1-(كتاب الطبقات الكبير 8 / 250 ) لمحمد بن سعد بن منيع الزهري, تحقيق د. علي محمد عمر, ط1 مكتبة الخانجي 1421 - 2001 م
2-(الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2 / 226) أبو القاسم الأصبهاني, ط2 دار الراية تحقيق محمد أبورحيم
3-(بذل المجهود في إفحام اليهود) ص13 السموءل بن يحيى بن عباس المغربي ط1 دار القلم ودار الشامية تخريج عبدالوهاب طويلة 1410هـ - 1989 م
4- صحيح البخاري ح1120 ص 197 ط1 المكتبة العصرية مراجعة وضبط فهرسة محمد علي القطب وهشام البخاري 1423 هـ - 2002م
5-(الحجة في بيان المحجة 1/135) ط دار الراية تحقيق ودراسة محمد ربيع

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة