الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وقفات مع الاستفهام بالهمزة في الحديث النَّبويّ

وقفات مع الاستفهام بالهمزة في الحديث النَّبويّ

وقفات مع الاستفهام بالهمزة في الحديث النَّبويّ

الاستفهام في اللُّغة: استفهمه، سأل أن يُفهمه، وقد استفهمني الشَّيء فأفهمته تفهيمًا، فهو طلب الفَهْم، وأمَّا في الاصطلاح: فقد عرَّفه العلماء تعريفات متقاربة، وهو لا يخرج عن معناه اللُّغوي، وهو طلب الفهم؛ ولذا يمكن أنْ نقول: إنَّ الاستفهام هو أسلوب لُغويّ يُطلب به الفهم.

ومن مميزات أسلوب الاستفهام أنَّ له الصَّدارة في الكلام، أي أنَّ الكلمة تقع في صدر الجملة، فلا يتقدَّم عليها ركن من أركانها، ولا هو من تمامها، ولا يشترط أن تقع في أوّل الكلام، لكن لا بدّ أن تقع في أوّل الجملة، سواء أكانت في أوّل الكلام أم في وسطه.

وإنَّما كانت لأدوات الاستفهام الصَّدارة في الكلام، لأجل أنَّها تفيد الكلام معنى الاستفهام، كما هو حال أدوات النَّفي وغيرها.

والاستفهام أسلوب غنيٌّ بالأدوات، يمكنه من خلالها الاستفهام عن الأحوال والأشياء جميعها.

وحينما درس بعض اللُّغويِّين أسلوب الاستفهام في الأحاديث الصَّحيحة، وجدوا أنَّه قد وَرَدَ بأدواته المختلفة في الأحاديث المرفوعة في صحيح البخاريّ في سبعة وخمسين ومئتي موضع، وكانت لهم وقفات مع الاستفهام بالهمزة تحديدًا، فلِمَ يا تُرى قد اهتموا بالهمزة، وأوْلوها عناية خاصَّة؟

تُعدُّ (الهمزة) أمَّ باب الاستفهام، فهي الأداة الأصليّة الَّتي يُحمل عليها الاستفهام، إذ إنَّ بقيّة أدوات الاستفهام قد تضمَّنت معناها فحُملت عليها، وقد ورد الاستفهام بالهمزة في الأحاديث المرفوعة في (صحيح البخاريّ) في أربعة وتسعين موضعًا، وكانت على النَّحو التَّالي:

أوَّلًا: الهمزة مع الفعل الماضي، مع الفاعل (اسم ظاهر، أو ضمير متَّصل):

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَصَلَّى النَّاسُ؟)، (أَصدقَ ذو اليدين؟)، (أَشعرتَ أنَّ اللهَ أخْبَتَ الكافر؟)، (أَسرقتَ؟).
في الأمثلة السَّابقة ورد أسلوب الاستفهام بوساطة (الهمزة) الَّتي دخلت على أفعال ماضية (صلَّى، صدق، شعر، سرق) على التَّوالي، وقد أُسندت إلى الفاعل (النَّاس، ذو اليدين، والضَّمير المتّصل التَّاء)، ولم تخرج (الهمزة) عن مدلول الاستفهام فيما سبق، وقد وردت هذه الصُّورة في ثلاثة وثلاثين موضعًا في صحيح البخاريّ.

ثانيًا: الهمزة مع الفعل المضارع، مع فاعل (اسم ظاهر أو ضمير متَّصل):

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أيحبُّ أحدُكم أنْ تُؤتى مشربته فتُكْسر؟)، (أيسرُّكم أنّكم أطعتم الله ورسولَه؟)، (أتدرون ما يقول؟).
في الأمثلة السَّابقة دخلت (همزة) الاستفهام على الفعل المضارع، وهو (يحبّ، يسرّ، تدرون) على التَّوالي، والفاعل هو (أحد، المصدر المؤّول، واو الجماعة) على التَّوالي، وقد عُلّق الفعل (تدرون) عن العمل بوساطة (ما)، ولم يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقيّ، وقد وردت هذه الصُّورة في ثلاثة وعشرين موضعًا في صحيح البخاريّ.

ثالثًا: الهمزة مع حرف العطف، مع الفعل الماضي:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أو فَعَلْتَ؟)، (أفنلتَ مِنْ أُمِّه؟).
من المعلوم أنَّ من خصائص (الهمزة) - نظرًا لأصالتها في الاستفهام - أنَّ لها الصَّدارة التَّامَّة في الكلام، وهذا ما حدث مع الجملتين السَّابقتين؛ إذ تقدَّمت (الهمزة) على حرفي العطف (الواو، والفاء) على التَّوالي، اللَّذين بعدهما فعلان ماضيان هما: (فعل، نال)، وقد جاء الاستفهام على حقيقته، وقد وردت هذه الصُّورة في ثلاثة مواضع في صحيح البخاريّ.

رابعًا: الهمزة مع حرف العطف مع الفعل المضارع:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أفتدرون أيَّ شهر هذا؟)، (أو تُحبين ذلك؟).
فيما مَرَّ جُملتان فعليّتان تصدَّر فيهما الاستفهام؛ إذ تقدَّمت (الهمزة) على حرفي العطف (الفاء، والواو)، وهو من خصائصها، وفعلا الاستفهام هما (تدرون، تحبِّين)، وقد وردتْ هذه الصُّورة في خمسة مواضع في صحيح البخاري.

خامسًا: الهمزة مع المفعول به مع فعل ماضٍ:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (آلبرَّ أردْنَ بهما؟)، (أكُلَّ ولدِك نَحَلْتَ هذا؟).
في المثالين السَّابقين دخلت (همزة) الاستفهام على المفعول به المتقدّم، وهو المستفهم عنه، وهو: (البرّ، كلَّ)، وقد أُدغمت (همزة الوصل) مع (همزة) الاستفهام في الجملة الأولى؛ أي قُلبت (الهمزة) الثَّانية إلى جنس حركة ما قبلها فصارت (مدَّة)، ولم ترد هذه الصُّورة إلا في هذين الموضعين في صحيح البخاري.

سادسًا: الهمزة مع (لم) مع الفعل المضارع:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألم أُرسلْ إليك رسولًا؟)، (ألم تري أنَّ قومكِ لمَّا بَنَوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟).
فيما مَرَّ دخلت الهمزة على الفعل المضارع (أُرسل، ترى)، المنفيّ بـ(لم)، ودخول همزة الاستفهام على الفعل المضارع المنفيّ بـ(لم) يفيد التَّقرير، وقد وردتْ هذه الصُّورة في ستة مواضع في صحيح البخاري.

سابعًا: الهمزة مع الفعل الماضي النَّاقص:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا أدري أكان فيمَنْ صُعِق فأفاق قبلي؟).
في هذا الحديث همزة استفهام استُفهم بها عن الفعل (كان) النَّاقصة، واسمها ضمير مستتر فيها يعود على النَّبيّ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وخبرها شبه الجملة المتعلِّقة بمحذوف، ولم يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقيّ، وقد وردتْ هذه الصُّورة في ثلاثة مواضع في صحيح البخاري.

ثامنًا: الهمزة مع (لم) مع فعل مضارع ناقص:

ومِن أمثلتها في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألم تكن طافت معكنّ؟).
في هذا المثال دخلت همزة الاستفهام على أداة النَّفي (لم) الَّتي جزمت الفعل المضارع النَّاقص (تكن) الَّذي اسمه ضمير مستتر تقديره (هي)، وخبره الجملة الفعليَّة (طافت)، ودخول الاستفهام على النَّفي يُسمَّى بـ(الاستفهام التَّقريريّ)، ويُجاب عنه بـ(بلى) إنْ كان صحيحًا، وليس بـ(نعم)، وقد وردتْ هذه الصُّورة في موضعين فقط في صحيح البخاري.

تاسعًا: حذف الهمزة:

علمنا ممَّا سبق أنَّ (الهمزة) أُمُّ الباب، وأنَّها تختصّ بصفات لا تشترك معها أدوات الاستفهام الأُخرى، ومن هذه الصِّفات صفة الحذف؛ أي أنَّنا إذا وجدنا سياقًا يدلُّ على الاستفهام خاليًا من الأداة، فلا نُقدِّر لهذا السِّياق أداة استفهام غير الهمزة، ولكن سيبويه لا يُجيز حذفها إلا في ضرورة الشِّعر، واشترط بعض البصريِّين أنَّها لا تُحذف إلا إذا دلَّ عليها دليلٌ مثل (أم) المعادلة، أو اعتمادًا على (التَّنغيم) كما يذهب بعض المُحْدَثين.
وفي الحقيقة أنَّ الاعتماد على نغمة الكلام - عند بعض اللُّغويِّين - أفضل من الاعتماد على (أم) المعادلة في التَّحقّق من وجود (الهمزة)، وهذا ما يشهد به واقع الاستعمال اللُّغويّ، وهو ما أقرَّه ابن هشام من قبل، فهو يرى حذف (الهمزة) جائزًا سواء دلَّ عليها دليل، أم لم يدلّ.

وقد ورد سياق الاستفهام محذوفًا منه الأداة في سبعة عشر موضعًا في صحيح البخاري لم توجد فيها دليل على الاستفهام مثل (أم) المعادلة، وإنَّما السِّياق هو الّذي حدَّد كون هذا الأسلوب استفهامًا، حيث ورد على النَّحو التَّالي:

1- الفعل الماضي: ومِن أمثلته في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (نامَ الغُلَيِّم؟).
فهذا أسلوب استفهام محذوف الأداة، وهي (الهمزة)، والاستفهام هنا للتَّصديق، وتقدير الكلام (أنام الغليم)، والَّذي دلَّ على الاستفهام السِّياق، وقد وردتْ هذه الصُّورة في أربعة مواضع في (صحيح البخاري).

2- الفعل المضارع: ومن أمثلته: (تشهدُ أنِّي رسولُ الله؟) (تعلم مَن تناجي منذ ثلاث؟).
في المثالين السَّابقين أسلوب استفهام خالٍ من الأداة، وتقديرها (الهمزة)، وقد دلَّ عليه السِّياق، والمُستَفهم عنه هو الفعل المضارع (تشهد، وتعلم)، ومن الملاحظ أنَّ الاستفهام تصديقيّ، وقد وردتْ هذه الصُّورة في ثلاثة عشر موضعًا في صحيح البخاري.

وبالله التّوفيق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة