الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المقاصد الأسلوبيّة للاستفهام في لغة الحديث الشّريف 3-4

المقاصد الأسلوبيّة للاستفهام في لغة الحديث الشّريف 3-4

المقاصد الأسلوبيّة للاستفهام في لغة الحديث الشّريف 3-4

لا يزال حديثنا موصولًا عن المقاصد الأسلوبيَّة الَّتي استخرجها اللُّغويّون في لغة الحديث النّبويّ الشَّريف؛ ومن ذلك:

رابعًا: الإثارة والتّشويق:

وهما يلتقيان لُغويًّا في معنى تهييج المشاعر وتحريكها، غير أنَّ الإثارة تهييج للمشاعر على الإطلاق؛ سواء مِن غضَبٍ أو مِن غيره، وأما مادة الشّوق، فتعني: "نِزَاع النّفس إلى الشّيء، والشّوق حركة الهوى"، ويقال: شُقْ إذا أمَرَتَه أن يشوِّقَ إنسانًا إلى الآخرة، وشاقَني شوقًا وشوَّقني: هاجَني، فتشوَّقت إذا هَيَّجَ شوقَك.

فالمراد بالإثارة والتّشويق - كمعنى للاستفهام - توجيه السّامع أو المتلقِّي إلى الانتباه، بتحريك مشاعره نحو أمرٍ محبوب يرغب فيه السّائل؛ بقصْد استمالته نحو ما سيُلقيه إليه بعد الاستفهام، وقد توخَّى الرّسول الكريم معنى الإثارة والتّشويق في كثيرٍ من استفهاماته، منها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألا أُخبركم بخَيْر دُور الأنصار؟) رواه البخاريّ، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أفلا أعلِّمكم شيئًا تُدركون به مَن سبَقَكم، وتَسبقون به مَن بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم، إلاَّ مَن صنَع مثلما صنعتُم؟) رواه مسلم.

والاستفهام لتضمُّنه ما يُشتاقُ إلى معرفته، حقَّق الإثارة وهيَّج شعور الصّحابة بقرينة أنّ الصّحابة تشوَّقوا إلى أن يُخبرهم الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بما شوَّقهم إليه، فقالوا: "بلى يا رسول الله"، فالأنصار تشوَّقوا إلى أن يَعرفوا مَن سيخصُّهم الرّسول بهذه الخيريَّة، ومَن اشتكوا إليه استئثارَ الأغنياء بالثواب؛ لاجتماعهم معهم في العبادات، وتميُّزهم بالعِتق والصَّدَقات، تلهفت أنفسُهم إلى معرفة ما العمل الذي سيجعلهم يتميَّزون عنهم به، بل يَسبقونهم، ومَن لا تميل نفسُه إلى هذا الخير؟

أمَّا سِرُّ اختيار الاستفهام أسلوبًا للتّعبير عن هذه المعاني بدلًا من الخبر، كأن يقول مثلًا: "خَيْر دُور الأنصار كذا"، و"سأعلِّمكم بما تُدركون به مَن سبَقَكم..."؛ فلأنّ في إيثار التّعبير بالاستفهام -في مقام الإثارة والتّشويق- بلوغًا بالإثارة والشّوق في نفوس السّامعين إلى أقصى حدٍّ، ثمّ فيه استيلاؤه صلَّى الله عليه وسلَّم على نفوس جميع سامِعيه.

أمَّا أسلوب الخبر، فقد لا يتحقَّق له ذلك؛ لأنّ الاستفهام بطبيعة صيغته فيه جذْبٌ للانتباه، فإذا اجتمَع مع جذْبِ الانتباه التّشويقُ، فقد بلغَت الإثارة غايتَها، كما أنَّ في أسلوب الاستفهام في مثل هذا المقام تجسيدًا فعليًّا للتواصُل بين المنشِئ والمتلقِّي، فيُصبح المتلقي فاعلًا هو الآخر في بناء النّص، أمَّا الأسلوب الخبري، فالمتلقِّي مستمعٌ فحسب، دَوْره التلقي فحسب دون التفاعل الحي مع النصِّ؛ بالسؤال والجواب والتعقيب.

ولا يَلْزم في الاستفهام الّذي للتشويق أنْ يُجيب السّامع بما يفيد موافقته على إخباره بما يشوِّقه إليه؛ فالقصْد من هذا الأسلوب استدراجُ السامع إلى الانتباه إلى ما يلحق الاستفهام من كلام، وعادة ما يواصِل المتكلم كلامَه دون أن يحصلَ على موافقة سامعه؛ كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألا أُخبركم بخير الناس وشَرِّ الناس؟) متّفق عليه، فلم يَنتظر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم موافقةَ سامِعيه من الصّحابة، بل واصَل الكلام وأخْبَرَهم.

خامسًا: الإعلام والتّبشير:

من الطّبيعي أن يسأل السّائل؛ ليعلمَ ما لا يعلم، أو ما يريد أن يعلم، وهذا هو الأصل في الاستفهام، أمَّا أن يعمدَ المتكلم إلى الإعلام بطريق السّؤال، فهذا إبداع فني، وهو ما يؤكِّد أنَّ فنيَّة اللّغة المستعملة أكبرُ من أن تُقَنَّنَ في قواعدَ وأصول.

والملاحظ أنَّ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لَم يعمدْ إلى هذه الطريقة في الاستفهام إلاَّ حين يريد أن يُعْلِمَ المستمع له بخبرٍ يتضمَّن بُشرى تخصُّ المستمع أو تخصُّه والمستمع معًا، وورَد ذلك ثلاث مرات، منها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعائشةَ رضي الله عنها: (ألَم ترَيْ مُجَزِّرًا نظَر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام من بعض) متّفق عليه، وقوله: مخاطبًا عائشة رضي الله عنها أيضًا: (أشعرتِ أنَّ الله أفتاني فيما فيه شفائي؟ أتاني رجلان، فقعَد أحدهما عند رأْسي، والآخر عند رِجْلي، فقال أحدهما للآخر: وما وجَع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: ومَن طَبَّه؟ قال لَبيد بن الأعصم، قال: فماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاقة، وجُفِّ طلعة ذَكَر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوَان)، فخرَج إليها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ثم رجَع، فقال لعائشة حين رجَع: (نَخْلُها كأنها رؤوس الشياطين)، فقلتُ: اسخرجتَه؟ فقال: (لا، أمَّا أنا، فقد شفاني الله، وخَشِيت أن يُثير ذلك على الناس شرًّا، ثم دُفِنَت البئر) متّفق عليه.

وسياق الاستفهام الأوَّل أنَّ المشركين كانوا: يقدحون في نسب أسامة؛ لكونه أسودَ شديدَ السواد، وكان زيد أبيضَ -كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح-، فلمَّا قضَى هذا القائف بإلحاق نَسَبِه مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تعتمد قولَ القائف، فرِحَ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم لكونه زاجرًا لهم عن الطَّعْن في النَّسَب.

وقد قال النّبيّ عليه الصَّلاة والسّلام هذا الاستفهام لعائشة بعد سماعه مُجَزِّرًا يقول: "إنَّ بعض هذه الأقدام من بعضٍ"، يعني: أقدام أسامة وأبيه زيد، وتحدَّث عن الأقْدَام، ولَم يتحدَّث عن الوجوه؛ لكونهما كانا قد غَطَّيَا رؤوسهما بقطيفة، ويبدو أنّهما كانا نائمَيْن، فدخَل على عائشة مسرورًا تَبْرُق أساريرُ وجْهه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقصْده من الاستفهام إعلامُها بما سَمِع من قول مجزر، وهو في ذاته بُشرى يسوقها إليها، ولو عَلِم أنها لا تُسَرُّ، لَمَا سارَع صلَّى الله عليه وسلَّم إلى إعلامها، فالمراد منه إذن "الإخبار أو العلم" بما كان صلَّى الله عليه وسلَّم في شوقٍ إليه، وهو إثبات نسَبِ زيدٍ رضي الله عنه لأبيه، ولَم نقل: إن القصْدَ منه التّشويق؛ لكون الاستفهام تضمَّن في بنائه البُشرى أو الخبر السارَّ، أمَّا في التّشويق، فالمُشَوَّق إليه لا يُذْكَر في الاستفهام نفسه، بل يُذْكَر بعده، وهذا هو الفرق بين التشويق بخبر سارٍّ، وبين التّبشير.

وأمَّا في الموضع الثّاني، فالقرينة -على أنَّ القصْدَ منه الإعلام والتّبشير- أنَّ بناءَ الاستفهام نفسه تضمَّن البشرى: (أشعرتِ أنَّ الله أفتاني فيما فيه شفائي؟)، وقول عائشة رضي الله عنها تَصِف حالَ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قبل هذه الرُّؤْيا: "سُحِر النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى كان يُخَيَّل إليه أنّه يفعلُ الشيءَ وما يفعله، حتّى كان ذات يوم دَعَا ودَعَا، ثم قال: أشعرتِ..؟" متّفق عليه، فالموقف موقف ثقيلٌ على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام؛ حيث إنّه سُحِر، حتّى ليُخيَّلُ إليه أنَّه يفعل الشّيء وما يفعله، فاجتهدَ في الدّعاء، ثمّ إذا به يُخبر عائشة بهذا الاستفهام، فالإعلام باستجابة الله دعاءَه وإراءَتِه الرُّؤْيا التي رآها، وهي رُؤْيا فيها شفاؤه، وهي لَم تكن تَنتظر سوى شفائه صلَّى الله عليه وسلَّم.

وكان يُمكنه صلى الله عليه وسلم أن يلجأَ إلى أسلوبٍ آخرَ، فيقول مثلًا: "يا عائشة، إن مجزِّرًا قال: كذا"، و"يا عائشة، إنَّ الله أفتاني"، فهل الأسلوب المفترض في بلاغة أسلوبه صلى الله عليه وسلم المختار؟! بالطبع بينهما فرق شاسعٌ؛ فالأسلوب المفترض أسلوب خَبَري، القصْد منه الإخبار فحسب أو الإعلام، ورُبَّما يُستفاد منه معنى التبشير كذلك، غير أنَّ الأسلوب المختار يتضمَّن تِلْكُما الدَّلالتَيْن، ويَزيد عليهما معاني أُخَر، هي جَذْب الانتباه، وإظهار الفرَح والسرور، وفي إخراج البُشرى والإعلام بها بطريق الاستفهام مزيدُ عناية من المتكلم بالبُشرى؛ ولذا أخْرَجَها على هذا الأسلوب المثير.

وجميع الاستفهامات الواردة على لسان الرَّجُلين في رُؤْياه صلّى الله عليه وسلّم القصْد منها كذلك إعلامه صلّى الله عليه وسلّم وتبشيره بما فيه شفاؤه، فالقصْد أن يسأل أحدهما ويُجيب الآخر، فضلًا من الله عليه صلّى الله عليه وسلّم ليعلمَ وليستبشرَ بفرَجِ الله عليه بما فيه شفاؤه، ولعلَّه تأثَّر بهذا الأسلوب في الحوار، فأخرَج كلامه لعائشةَ رضي الله عنها على هذا النّحو.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة