الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حوار جعفر مع النجاشي عن عيسى عليه الصلاة والسلام

حوار جعفر مع النجاشي عن عيسى عليه الصلاة والسلام

حوار جعفر مع النجاشي عن عيسى عليه الصلاة والسلام

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم بعد إسلام أخيه علي رضي الله عنه بقليل، وهو أحد السّابقين إلى الإسلام، وهاجر مع بعض المسلمين إلى الحبشة ومكث فيها عند ملكها النصراني النجاشي، ثم هاجر إلى المدينة المنورة يوم خيبر، فكانت له هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة المنورة، وهو المعروف والمشهور بذي الجناحين، وقد قُتل شهيداً وهو ابن إحدى وأربعين سنة في غزوة مؤتة، قال المباركفوي: "ويقال له: ذو الجناحين، لأنه قد عوض بجناحين عن قطع يديه في غزوة مؤتة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل، روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين".

لما هاجر جعفر رضي الله عنه وبعض المسلمين المستضعفين إلى الحبشة، حزن المشركون في مكة على إفلاتهم منهم وذهابهم إلى مكان يأمنون فيه على أنفسهم، ومن ثم قرروا إرسال رجلين منهم، وهما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ليُرْجِعوا هؤلاء المهاجرين إلى مكة، فذهبا وأخذا معهما هدايا كثيرة للنجاشي وكبار القوم عنده، فلما وصلا إلى الحبشة والتقيا بالنجاشي وسمع منهما، استدعى النجاشي المسلمين الذين أتوا إلى بلده مهاجرين، ودار حوار طويل بين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه والنجاشي، ومما دار بينهما في هذا الحوار: الكلام على عيسى عليه السلام. وتصف أم سلمة رضي الله عنها هذا الموقف والحوار فتقول:
(نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا اللهَ لا نؤذّى، ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلَدين (قويين شديدين)، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدَم (الجِلْد)، فجمعوا له أدما كثيرة، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص، وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدِّموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسْلِمهم إليكم قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا فقدما على النجاشي فنحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء (تركوا دينهم)، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدَقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمْهُم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ اللهِ (أي: لا والله) إذًا لا أُسْلِمُهُم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني نزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهم ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت (أم سلمة): ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قال: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإِسلام - فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ عليّ، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}(مريم:1) (بعض آيات من أوائل سورة مريم)، قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل (بلَّ) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد.
قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غداً عيبهم عنده، ثم أستاصل به خضراءه، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ـ وكان أتقى الرجلين فينـا ـ: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا (تجاوز) عيسى ابن مريم ما قلتَ، هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم ـ الآمنون ـ، من سبّكم غُرِّم، ثم من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبراً ذهباً ـ أي جبلاً ذهباً ـ وإني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار) رواه أحمد وصححه الألباني.

حين طلب النجاشي شيئاً مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن في شأن عيسى عليه السلام، جاءه جعفر رضي الله عنه بآيات من أوائل سورة مريم، تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام وبيان عِظَم وعلو منزلتهما وقدْرهما، وذلك غاية في الحكمة، حتى بكى النجاشي وأساقفته، ثم أوضح جعفر رضي الله عنه للنجاشي ومن حوله عقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام وأمه، وأنه عبْد ونبي، وليس بإله ولا ابن إله، ولا يُخاض أبداً في عِرْض أمه مريم عليها السلام كما يخوض الكاذبون الضالون من اليهود وغيرهم، بل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم البتول (المنقطعة عن الزواج) العذراء الطاهرة.. وقد انتهى هذا الموقف والحوار بين جعفر والنجاشي بأن أعلن النجاشي صدق جعفر في كل ما قاله ثم أسلم، ويستفاد من ذلك أن النجاشي كان على النصرانية الصحيحة، ولم يكن عنده انحراف النصارى في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام، ولذا صدَّق ما سمع من الحق في القرآن، وكان ذلك بفضل الله تعالى ثم بحكمة جعفر رضي الله عنه في دعوته إلى الله، ومن ثم فلا عجب أن قال النبي صلى الله عليه وسلم عن جعفر: (أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وهي مَنْقبة (فضيلة ومفْخَرَة) عظيمة لجعفر".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة