الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

غزوة السَّوِيق

غزوة السَّوِيق

غزوة السَّوِيق

في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة، كانت غزوة بدر، التي انتصر فيها المسلمون على المشركين انتصاراً عظيما، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}(آل عمران:123). قال ابن كثير: "أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله". وقد تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة لجيشها في بدر بالحزن الشديد، وأثر ذلك فيهم أثراً سيئاً، وملأ قلوبهم وبيوتهم همّاً وغمّاً، فقد لقي سبعون منهم مصرعهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيدة والعاص ابنا سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط .. وغيرهم من قادتهم وزعمائهم، كما أُسِرَ سبعون منهم، ولذلك لم يكن من المُتَوَقَع أبداً أن يتلقى المشركون في مكة هزيمتهم من المسلمين بالقبول والاستسلام، ولذلك فمِن لحظة رجوعهم من بدر أعلنوا أن يوم الانتقام قريب، حتى أن أبا سفيان ـ قائد المشركين في بدر ـ نذر ألا يمسَّ رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم للانتقام، ومن ثم تعجل القيام بعمل سريع يعيد به إلى قريش مكانتها وهيبتها التي فقدتها في بدر، وينتقم به من المسلمين، فخرج في مائتي راكب من قريش وذلك في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، أي: بعد غزوة بدر بشهرين، فيما عُرِف في السيرة النبوية بغزوة السَّوِيق، والسَّوِيق هو: قمح أو شعير يغلى ثم يطحن ويخلط بماء أو سمن أو عسل ويتزود به، وقد ألقى وطرح المشركون خلفهم في هذه الغزوة الكثير من السويق، والذي عثر عليه المسلمون في طريق مطاردتهم لهم، قال ابن هشام: "وإنما سُمِّيَت غزوة السَّوِيق لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السَّوِيق، فرجع المسلمون بسويق كثير".

وقد ذكر غزوة السَّوِيق ابن هشام في "السيرة النبوية"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وابن سيد الناس في "عيون الأثر"، وابن القيم في "زاد المعاد" وغيرهم، وفيها: "حين رجع (أبو سفيان) إلى مكة، ورجع فَلُّ قريش (القوم المنهزمون) من بدر، نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة (الغسل من الجنابة كان معمولاً به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم) حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائتي راكب من قريش، لِيَبَرَّ يَمِينَه، فسلك النَّجْدِيَّة، حتى نزل بِصَدْرِ قَنَاةٍ إلى جبل يقال له: ثَيْبٌ، من المدينة على بَرِيدٍ (تسعة عشر كيلو متر) أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم (المال الذين كانوا يجمعونه لنوائبهم وما يعرض لهم)، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه (قدم له طعام الضيف) وسقاه، وبطن له من خبر الناس (أعلمه من أسرار المسلمين، خيانة منه)، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها، يُقال لها: الْعَرِيض (واد بالمدينة به أموالا لأهلها)، فَحَرَقُوا فِي أَصْوَارٍ (مجموعة) مِنْ نَخْلٍ بها، ووجدوا بها رجلا من الأنصار وحلِيفاً له فِي حَرْثٍ لهما، فقتلوهما، ثُمَّ انصرفوا راجعين. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في أثرهم يطلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار، واستعمل على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه، فجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جُرَب (جمع جراب، وهو وعاء من جلد) السويق، وهي عامة أزوادهم، يتخففون منها للنجاء (للهرب بسرعة)، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ (ماء لبني سليم قريبة من المدينة)، ثم انصرف راجعاً إلى المدينة، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وَقَدْ رأوْا أزْوَاداً منْ أَزْوَادِ الْقَوْم قَدْ طرحوها في الْحَرْث يَتَخَفَّفُون منها للنَّجاء، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم".
حرصت قريش منذ مصيبتها ونكبتها في بدر على الأخذ بثأرها من المسلمين، فلم تغنها غزوة السويق شيئاً، بل زادها فرارها المشين عاراً جديداً على عارها في بدر، وأضاع مقداراً كبيراً من تمويناتهم ـ السويق ـ والذي سُمِّيَت الغزوة به.

لقد تعددت المواجهات والغزوات بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعد معركة بدر وقبل أحد، ومن ذلك غزوة السويق التي وقعت أحداثها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة النبوية، وهذه الغزوة وما شابهها ـ على صغرها وعدم حدوث قتال فيها ـ أشعرت المشركين في مكة، واليهود والمنافقين في المدينة المنورة، والأعراب خارج مكة والمدينة، أن دولة المسلمين الجديدة دولة قوية، وأن المسلمين أشداء أقوياء، ولن يصدهم عن دينهم ودعوتهم إليه شيء، وهذا من باب إعداد وإظهار القوة للذين يكيدون للإسلام ويتآمرون عليه، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}(الأنفال:60).. ثم إن غزوة السويق وغيرها من غزوات وسرايا صغيرة، كانت دورات تربوية وعسكرية للصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان المنهج النبوي يهتم بتربية الصحابة في المسجد، بتهذيب الأخلاق، وتزكية النفوس، وتنوير العقول، ولا يغفل عن تربيتهم وإعدادهم كذلك في ميادين القتال والجهاد من خلال السرايا والغزوات وإن صغرت، ومن ثم جمع المنهج النبوي الكريم بين التربية الأخلاقية والتربية العسكرية، حتى يثبت ويقوى المجتمع المسلم الجديد، ويقوم بدوره بنشر الإسلام في آفاق الدنيا كلها .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة