الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ومنهم من يستمع إليك

ومنهم من يستمع إليك

ومنهم من يستمع إليك

من النظائر القرآنية ما نقرأه في الآيتين التاليتين:

الأولى: قوله سبحانه: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} (الأنعام:25).

الثانية: قوله تعالى: {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} (يونس:42-43).

فقد ورد الفعل في الآية الأولى مسنداً إلى ضمير المفرد {يستمع}، وورد الفعل في الآية الثانية مسنداً إلى ضمير الجمع {يستمعون} مع استواء الآيتين في الإخبار عن مجموع، فللسائل أن يسأل: لِمَ ورد في الأولى {ومنهم من يستمع إليك} وفي الثانية {ومنهم من يستمعون إليك} مع اتفاق الآيتين فيما ذُكر؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي على هذا السؤال بما حاصله: إن لفظ (مَن) لفظ مفرد، ويصلح للاثنين والجمع أيضاً، وعلى هذا وَضْعه لغة؛ فإذا ورد في تركيب الكلام، فأول ما يُحمل على السابق من حكمه اللفظي من الإفراد، فلهذا ترد صلته إن كان موصولاً، أو صفته إن كان موصوفاً، أو خبره إن كان شرطاً، أو استفهاماً، كصلة اسم الموصول (الذي) الواقع على المفرد، فنقول في الصلة والصفة: (من الناس من يفعل كذا) ونقول في الاستفهام: (من يفعل ذلك؟) فيَرْفَعُ الفعلُ ضميراً مفرداً. وسواء كان المراد في المعنى واحداً، أو أكثر. ثم قد يكون فيما اتصل بالكلام بعدُ ضمير أو غيره، يراعى فيه معنى (من) حيث يراد أكثر من واحد، فيأتون به على معنى (من) لا على لفظها، كقولنا: (من الناس من يفعل كذا، وهم يخطئون في ذلك)، وقولنا: (ومنهم من يفعل كذا، مستمرين على فعلهم) يبين ضمير الجمع في قولنا: (وهم يخطئون) والحال في قولنا: (مستمرين على فعلهم) أن المراد أكثر من واحد.

وعلى هذا كلام العرب في الكثير المطرد، وعليه جاء القرآن، قال عز من قائل: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} ثم قال: {وما هم بمؤمنين} (البقرة:8) فعاد الضمير في قوله: {وما هم} بصيغة الجمع بعد عودته مفرداً {يقول}. وقال تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} ثم قال: {خالدين فيها أبدا} (الطلاق:11) فعاد الضمير من {يدخله} مفرداً على لفظ {من} ثم قال: {خالدين} وهو حال من الضمير في قوله {يدخله} فتبين بهذا الجمع {خالدين} أن المراد جَمْعٌ.

وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد، كقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} (البقرة:204-205)، فورد فيها ثمانية ضمائر، كلها عائدة على لفظ (مَن) ولم يرجع منها شيء على معنى (مَن) مع أن المعنى على الكثرة. على أن المراد (الإفراد) أو (الجمع) إنما يبيُّنه ما يأتي بعد الضمير المفرد المحمول على لفظ (مَن) وإبهام المراد مقصود؛ فإن إبهام الصلة، أو الخبر في هذا أبلغ في تكميل فائدة الكلام، فقول الملك لخاصته: (إن منكم من يفعل كذا) أهيج لنفوس السامعين، وأبلغ في التحريض على الشيء، أو الزجر عنه بحسب المُرْتَكَب؛ فإن كان مما يحبه الملك، تشوقت وتشوفت نفوس المخاطبين إليه، وإن كان على الضد من ذلك، اشتد خوف جميعهم، وحذرهم. والوارد من هذا في الكتاب العزيز كثير.

وآية الأنعام وردت على الأكثر المطرد، وقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة، وذلك قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} فبين أن المراد جماعة، وارتفع الاحتمال، ولما لم يرد مع آية سورة يونس ضمير، ولا غير ذلك مما يبين المستمعين جماعة، وكان بيان ذلك مراداً مقصوداً، أتى الضمير أولاً ضمير جمع، حملاً على معنى {من} ولم يُحمل على لفظها فيُفرد؛ لئلا يوهم أن المستمع واحد، وذلك غير مقصود، فقيل: {ومنهم من يستمعون إليك} إذ ليس في الكلام بعدُ ما يبين ذلك.

فإن قيل: إن (مَن) قد تقرر حكمها أنها يراد بها الكثير، وإن كانت مفردة اللفظ، وصالحة له، وإذا كانت في الأكثر من كلامهم مراداً بها الكثير، فذلك يرفع إيهام إرادة المفرد؟ فالجواب: أن إرادة المفرد بها -وإن كان الأقل- مبقٍ حكم الإيهام، قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} نزلت هذه الآيات فيالأخنس بن شريق، وقد تكرر الضمير فيها ثماني مرات ضمير مفرد، وتأكد بذلك أن المعنيَّ بها واحد، كما قال المفسرون. وقال تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} (التوبة:49) نزلت في الجَدِّ بن قيس لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الروم، وقال: (هل لك في جِلَاد بنى الأصفر) وقصته مشهورة. وقال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} (التوبة:75) نزلت في ثعلبة بن حاطب إلى غير هذا من المواضع.

فإذا ثبت أن (مَن) تصلح للواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث. وقد ذكر المفسرون وأهل السير أن المعترضين لسماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم كانوا جماعة، سمَّاهم المفسرون، فتحرير المراد في الآية مُحْرِزٌ للمعنى المقصود، ومتأكد؛ إذ ليس فيما بعد مما في نظم الآية ما يبين المراد كما في غيرها، فوجب مراعاة ذلك، فقيل: {ومنهم من يستمعون} ولزم ذلك؛ ليرتفع الإيهام.

فإن قيل: فإن قوله تعالى في آية يونس {أفأنت تسمع الصم} يبين ذلك كما بيَّنه في آية الأنعام قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} وما بعدُ؛ إذ الارتباط حاصل في الآيتين، ونظم الكلام ملتئم؟ فالجواب: أن ارتباط قوله تعالى: {أفأنت تسمع الصم} بما قبله صحيح، كارتباط قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} بما قبله، إلا أن قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} مبيِّنٌ أن ما وقعت عليه {من} جماعة، وكأن الكلام في قوة أن لو قيل: (وجعلنا على قلوب السامعين) إذ لا يراد بالضمير غير ما وقعت عليه. أما قوله تعالى: {أفأنت تسمع الصم} فليس كذلك، بل المراد بلفظ {الصم} جنس الصم، و(المستمعون) بعض ذلك، فحصل الارتباط بهذا الوجه، لا أن {الصم} يراد بهم مَن وقعت عليه (مَن) فحسب. وهذا كقولهم: (زيد نعم الرجل) فإن (الرجل) لم يُرَدْ به (زيد) وحده، إنما أريد به جنس الرجال، وإنما زيد واحد منهم، فحصل الارتباط بهذا الوجه، فليس كقوله: {وجعلنا على قلوبهم} وبهذا يتم المعنى المقصود من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأنه قد قيل له عليه الصلاة والسلام: (إن الصم الذين لا يعقلون، لم تُكَلَّف إسماعهم، وهؤلاء منهم) فافترقت آية يونس عن آية الأنعام من هذا الوجه، وورد كل على ما يناسب.

فإن قيل: إذا كان الأكثر في (مَن) وقوعها على الكثير، فقد وردت آية يونس على ما هو قليل في كلامهم، وهذا ما يُسأل عنه؟ فالجواب: أن ذلك كله فصيح، ومعروف من كلام العرب، ولا يلزم من كون الوارد أقل، أن يكون دون الكثير في الفصاحة، بل كلٌّ فصيح صحيحٌ، وقد بوَّب سيبويه رحمه الله على حال (مَن) في وقوعها على من ذُكِر: فقال في كتابه: "هذا باب إجرائهم صلة (مَن) وخبرها، إذا عَنَيْتَ اثنين، كصلة (الَّلذَيْن)، وإذا أرادت جماعة، كصلة (الذِين) ثم ذكر الآية: {ومنهم من يستمع إليك}. ودلَّ قوله في ترجمة عنوان الباب: (هذا باب إجرائهم...) بالإضافة إلى ضمير الجمع، إنما يريد العرب، وهذا مشير إلى أن العرب تتكلم به كثيراً، وأنه ليس في كلام بعضهم دون بعض، ووضح من جملة هذا، أن قوله عز شأنه: {ومنهم من يستمعون إليك} بضمير الجماعة، لا يلائم الموضِع سواه؛ إذ ليس بعده ما يبين أن المراد جَمْع، أما آية الأنعام فقد ورد في نظم الآية ما يبين المراد، فجاء كل على ما يناسب.

وقد قال أبو حيان في "المحيط" عند تفسيره لقوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} قال: "ووحَّد الضمير في {يستمع} حملاً على لفظ {من} وجَمَعَه في {على قلوبهم} حملاً على معناها". وقال عند تفسيره لقوله عز وجل: {ومنهم من يستمعون إليك} قال: "والضمير في {يستمعون} عائد على معنى {من} والعود على المعنى، دون العود على اللفظ في الكثرة، وهو كقوله: {ومن الشياطين من يغوصون له} (الأنبياء:82) والمعنى: من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن".

وقال الرازي: "لفظة (من) لفظة صالحة للتثنية، والجمع، والواحد. أما في الواحد، فقوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} وفي الجمع كقوله: {ومنهم من يستمعون إليك} والسبب فيه أنه موحَّدُ اللفظ مجموع المعنى، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ، وعند الجمع يرجع إلى المعنى". ومثَّل لاجتماع الأمرين في قوله سبحانه: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} (البقرة:8) لأن قوله تعالى: {يقول} لفظ الواحد، وقوله: {وما هم بمؤمنين} لفظ الجمع.

ومحصَّل القول هنا: أن لفظ (مَن) يصلح للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وما بعدها هو الذي يحدد المراد منها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة