الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والذين يمسكون بالكتاب

والذين يمسكون بالكتاب

والذين يمسكون بالكتاب

من الآيات التي تحدد منهج المسلم في هذه الحياة، وترسم طريقه إلى الآخرة ما جاء في قوله سبحانه: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} (الأعراف:170) نقف مع هذه الآية إحدى عشرة وقفة، نستجلي ما فيها من إرشادات وإفادات:

الوقفة الأولى: قوله سبحانه: {يمسكون} يقال: مَسَك بالشيء، وتمسك به، واستمسك به، وامتسك به، كلها بمعنى واحد، بيد أن (مَسَّكَ) -بتشديد السين- فيه قوة في التمسك، ليست في (مَسَكَ) به، بل أكثر من (استمسك) لأنها تتضمن الأخذ به، والعمل بما فيه، والإذعان لأحكامه من غير إهمال ولا نسيان، ودعوة إلى مسكه، والعمل به من دون غيره، واستنكار لمن لا يمسك به.

ومعنى (التمسك) به: الإذعان لأحكامه، والدعوة لهذا الإذعان، والعمل به مخلصين غير متحايلين لتركه، وإلقاء المعاذير عند ترك العمل به. قال السعدي: "يتمسكون به علماً وعملاً؛ فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي عِلْمها أشرف العلوم، ويعملون بما فيها من الأوامر، التي هي قرة العيون، وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهراً وباطناً، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات".

الوقفة الثانية: قوله عز وجل: {بالكتاب} (الكتاب) هنا هو الكتاب الموروث، والمقصود به التوراة، وهي التي درست بنوا إسرائيل ما فيها، وقد أخذ الله فيها الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق. والمراد هنا عموم اللفظ، لا خصوص السبب، كما سيتضح قريباً.

الوقفة الثالثة: ذكر عز وجل أعظم أعمال الطاعة بعد التمسك بالكتاب، فقال: {وأقاموا الصلاة} أي: أتوا بها مقومة على وجهها الأكمل، وتكون الصلاة على الوجه الأكمل إذا كان ذكر الله، واستشعار خشيته في كل ركن من أركانها، واختصها الله تعالى بالذكر؛ لأنها ركن الدين، ولبه، ولا دين من غير صلاة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها سبيل للابتعاد عن المنكرات، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت:45).

الوقفة الرابعة: ذكر سبحانه جزاء الممسكين بالكتاب، والمقيمين الصلاة بطريق الاقتضاء، فوصف ذاته العلية بأنه لا يضيع أجر المصلحين، وقد أصلحوا فاستحقوا أجره الذي لا يضيعه أبداً، فهو إعطاء مع ذكر داعيه.

الوقفة الخامسة: في الآية إظهار في موضع الإضمار، مصرح بقوله: {المصلحين} بدل قوله: (لا يضيع أجرهم) وذلك لأمرين؛ أولهما: للدلالة على أن ذلك شأن من شؤون الله العلي الأعلى. ثانيهما: الإظهار للإشارة إلى السبب في الجزاء، وهو الإصلاح، أي: كونهم مصلحين.

الوقفة السادسة: في التعبير بقوله سبحانه: {المصلحين} إشارة إلى أن تمسكهم للكتاب يتجاوز الإمساك به إلى الدعوة إليه، والدلالة عليه.

الوقفة السابعة: هذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بُعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم، والاقتداء بهديهم، والاستمساك بنهجهم.

الوقفة الثامنة: أفادت الآية أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبداً {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} (البقرة:256) ومن وجَّه نيته في أن يفعل الخير والصلاح يعطيه الله العون والسداد والثبات.

الوقفة التاسعة: قوله سبحانه: {إنا لا نضيع أجرالمصلحين} بعد قوله: {يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} دليل على أن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب، ويقيمون الصلاة؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا كانت علاقة أهله بخالقهم وفق المنهج الرباني.

الوقفة العاشرة: قال صاحب "الظلال": "إن الصيغة اللفظية: {يمسكون} تصور مدلولاً يكاد يُحَسُّ ويُرَى، إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة...الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه...في غير تعنت، ولا تنطع، ولا تزمت؛ فالجِدُّ، والقوة، والصرامة شيء، والتعنت، والتنطع، والتزمت شيء آخر...إن الجِدَّ، والقوة، والصرامة لا تنافي اليسر، ولكنها تنافي التميع، ولا تنافي سعة الأفق، ولكنها تنافي الاستهتار، ولا تنافي مراعاة الواقع، ولكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم في شريعة الله، فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله. والتمسك بالكتاب في جِدٍّ، وقوة، وصرامة، وإقامة الصلاة -أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر، يعني مدلولاً معيناً؛ إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفا المنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس. وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي المنهج الرباني؛ ترك الاستمساك الجاد بالكتاب، وتحكيمه في حياة الناس، وترك العبادة التي تصلح القلوب، فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي يصنعه أهل الكتاب، وكالذي يصنعه أهل كل كتاب حين تفتر القلوب عن العبادة، فتفتر عن تقوى الله. إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب، ويقيم القلب على أساس العبادة، ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب، فتصلح القلوب، وتصلح الحياة. إنه منهج الله، لا يَعدل عنه، ولا يَستبدل به منهجاً آخر، إلا الذين كُتبت عليهم الشقاوة، وحق عليهم العذاب".

الوقفة الحادية عشرة: دلت الآية الكريمة على وعيد المعرض عن الكتاب، ووعد من تمسك به؛ تنبيهاً للمسلم وتحذيراً عن سلوك طريقتهم. كما دلت أيضاً على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة