الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها

حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها

حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها


لا يمكن للإنسان أن يجد عدالة أرقى ولا أنقى من عدالة أحكام الإسلام، فهي أثر من آثار عدل الله وحكمته، ومظهر من مظاهر الحكمة البالغة، ولا غرو فهو العليم بما يصلح خلقه وما يفسدهم، والتأمل في مظاهر عدل الشريعة باب واسع تفنى دونه الأعمار، ومن أمثلة ذلك: العدل الإلهي في قسمة التركات وأحكام المواريث، فقد تولى الله تعالى قسمتها بفروض مقدرة أنزلها في كتابه، ولم يدع هذا الأمر مفتوحاً لاجتهادات العلماء فضلا عن من دونهم من عامة الناس، ولو تركه للبشر لدخلت الأهواء والحيل ودغل النفوس وأثرتها، وإذا كان البشر يظلمون ويحتالون في إيصال الميراث لمستحقه مع أنها مبينة في كتاب الله، فكيف لو كانت إليهم القسمة وتحديد الوارث من غير الوارث، لأجل هذا وغيره جاءت آيات المواريث محكمة بينة، فكانت مسائل المواريث من مواضع الإجماع ولم يجر الخلاف إلا في مسائل معدودة منها.

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر»، وفي رواية عند مسلم: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر».

معنى الحديث:

المراد بـ «الفرائض» هنا كما قال الحافظ ابن حجر: الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه (الربع)، ونصف نصفه (الثمن)، والثلثان، ونصفهما (الثلث)، ونصف نصفهما (السدس). أ.هـ

والمراد بـ «أهلها» أي: من يستحقها بنص القرآن كما في رواية مسلم: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله»، وأصحاب الفروض مذكورون في كتب الفرائض مع شروط استحقاقهم لها، وبيان أحوالهم مع بعضهم في حجب بعضهم بعضا حجب حرمان أو حجب نقصان، وليس هذا موضع بسطها.

قوله: «فلأولى» معناه: الأقرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورِّث، وليس المراد هنا الأحق، فقد يكون من دونه أحق لفقر أو حاجة لكنه ليس أقرب للميت.

قوله: «رجل ذكر» نبه بمفهوم «رجل» على علة الاستحقاق فالعصبة الذكور هم من يقدمون في إرث بقية المال، وفيهم معنى التعصيب، وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء.
والعصبة كما قال النووي: كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى. أ.هـ
وأما قوله: «ذكر» فقد وجهه الشراح بتوجيهات كثيرة لدفع توهم التكرار، وأقرب تلك التوجيهات أنه لدفع توهم اختصاص الرجل بالبالغ، فنبه بالذكورة بعد الرجولة ليشمل البالغ وغيره.

وهذا الحديث مبيّن لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله -تعالى- بين أهلها، ومبيّن لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة ممّا لم يصرّح به في القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبيّن -أيضًا- لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضُمّ هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كلّه معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات.

مثال تطبيقي للحديث:

إذا ترك الميت بنتاً وعماً وعمةَ، فإن للبنت النصف فرضاً، وما بقي للعم تعصيباً؛ لأنه أولى العصبات الذكور، والعمة وإن كانت عصبة لكنها من عصبات الإناث؛ فلذلك لا شيء لها إجماعا.


ترتيب العصبات:

يقتضي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: «فَلِأولى رجلٍ ذكر» أن نعرف جهات العصوبة بترتيبها لنعلم من هو الأولى ببقية التركة بعد أصحاب الفروض.
فجهات العصوبة ست مرتبة كالآتي:
البنوّة، ثم الأبوّة، ثم الجدودة مع الأخوّة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم ذوو الولاء.
فالابن هو أقوى العصبات على الإطلاق، ولا يحجبه أحد من الورثة، فلو اجتمع عصبة من الدرجة الأولى (ابن)، وعصبة من الدرجة الثانية (جد) فلا يرث الجد بالتعصيب مع وجود الابن وهكذا.
فلا ترث جهة من هذه الجهات الست مع وجود الجهة التي قبلها، فإن اجتمع اثنان فأكثر من جهةٍ واحدةٍ، قدّم بالدرجة؛ فيقدم أقربهم إلى الميّت؛ كتقديم الابن على ابنه مثلًا، وتقديم العم على ابنه، فإن اتحدا جهة ودرجة، قدم بالقوّة، فيقدّم الأخ لأبوين على الأخ من الأب، وكذلك ابن الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب، وكذا العم لأبوين على العم لأب، وبنوهم كذلك.

وإلى هذه القاعدة أشار الجعبريُّ -رحمه الله تعالى- بقوله:

فَبِالْجِهِة التَّقْدِيمُ ثُمَّ بِقُرْبِهِ ... وَبَعْدَهُمَا التَّقْدِيمَ بِالقُوَّةِ اجْعَلَا

أحكام العصبة:

العصبة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون معه صاحب فرض فيعطى لصاحب الفرض سهمه فإن استغرق أصحاب الفروض جميع المال فلا شيء للعصبة، وإن بقي بعد أصحاب الفروض شيء فللعصبة.
الحالة الثانية: أن يكون منفردا فيأخذ جميع المال.
الحالة الثالثة: أن يكون معه عاصب غيره فيقدم الأقرب فالأقرب ولا شيء للبعيد مع وجود القريب.
قال النووي: أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيدٌ مع عاصبٍ قريب، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي، وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. أ.هـ

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة