الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا

من النظائر القرآنية نقرأ الآيات الثلاث التالية:

الآية الأولى: قوله سبحانه: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} (الأنعام:29).

الآية الثانية: قوله عز وجل: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} (المؤمنون:37).

الآية الثالثة: قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} (الجاثية:24).

هذه الآيات الثلاث قد اتحد موضوعها من إنكارهم البعث الأخروي، وأنه لا حياة بعد هذه الحياة الدنيا. ويرد هنا سؤالان اثنان:

الأول: لِمَ خلت آية الأنعام من قوله سبحانه: {نموت ونحيا} في حين أن الآيتين الأُخريين تضمنتا قوله تعالى: {نموت ونحيا

الثاني: لِمَ انفردت آية الجاثية بقوله عز وجل: {وما يهلكنا إلا الدهر} بينما خلت آيتا الأنعام والمؤمنين من قوله سبحانه: {وما يهلكنا إلا الدهر

أجاب ابن الزبير الغرناطي على السؤال الأول بما حاصله: أن آية الأنعام لم يرد فيما تقدمها زيادة على ما أخبروا به من حالهم في إنكارهم البعث الأخروي؛ ذلك أن الآية بُنيت على ما تقدمها من قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} (الأنعام:27) فكأنه قد قيل لهم: إنكم كنتم تنكرون البعث، ووجود هذه الحياة الأخرى، ولم يرد أثناء هذا ما يستدعي زيادة عليه.

أما آية سورة المؤمنين فترتب الوارد فيها من قوله تعالى: {نموت ونحيا} على ما تقدم من دعاء الرسل إياهم، وقد ذكر الإمداد في دنياهم الحامل على عتوهم، وقولهم في المُرْسَل إليهم: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} (المؤمنون:33) فلما طال هذا الكلام بما أغروا به سفهاءهم ناسب هذا الطول زيادة قوله: {نموت ونحيا} أي: طائفة تموت، وطائفة توجد.

وليس يخفى أن شأن ما يرد في الكتاب العزيز مما ظاهره التكرار، زيادة فائدة، أو تتميم معنى، أو لبناء غيره من الكلام عليه، حتى لا يكون تكراراً عند من وفق لاعتباره.

وأما آية الجاثية فقد أفصحت عن مُرْتَكَبِهم الشنيع من إنكارهم فاعلاً مختاراً، حين قالوا: {وما يهلكنا إلا الدهر} فزادوا إلى إنكارهم البعث الأخروي، إنكارهم توقف الموت على آجال محدودة للخلائق، ووقوعه بإرادة وتقدير من الموجد سبحانه، ثم أتبعوا شنيع مُرْتَكَبِهم هذا بقولهم للرسل تحكيماً لإنكارهم البعث: {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} (الجاثية:25) أي: إن كنتم صادقين في أنا نحيى بعد الموت، وأن ثمة حياة أخرى غير هذه الحياة التي نعيش فيها، فأرونا دليلاً على ذلك؛ بإحياء من مات من آبائنا، وإعادته إلى هذه الحياة! وبما ورد هنا من هذه الزيادة حصل التعريف بجملة مقالهم الشنيع، واستوفته هذه الآية على أحسن وجه وأتمه.

ثم ها هنا سؤال يتعلق بختام آية الجاثية؛ ذلك أن الآية خُتمت بقوله سبحانه: {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} (الجاثية:24) في حين أنه في آية سورة الزخرف التي يقول بها عز وجل: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم} خُتمت الآية بقوله تعالى: {إن هم إلا يخرصون} (الزخرف:20).

أجاب الخطيب الإسكافي على اختلاف هذا الختام بما حاصله: إن قبل الآية من سورة الزخرف قوله عز وجل: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون * وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (الزخرف:19-20) فأخبر عنهم أنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وأن الله أراد أن يعبدوهم، ومدعاهم ذلك غير مستند إلى علم، بل هم كاذبون فيما يدعونه، ويخبرون به، فأبطل خبرهم بالتكذيب لهم، وهو الذي يليق بالموضع.

والذي في سورة الجاثية خبر عن الكفار، الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بأنهم قالوا: لا بعث لنا، وكل ما في الأمر أن تموت الأسلاف، وتحيى الأخلاف، فكلما أهلك الدهر قوماً فأفناهم، أنشأ فيه آخرين وأحياهم، وهؤلاء لم يقولوا ما قالوا بمعرفة، بل قالوه على سبيل الظن، فكان ختم الآية بقوله سبحانه: {إن هم إلا يظنون} لائقاً بهذا المكان، كما لاق ختم آية الزخرف بقوله: {إن هم إلا يخرصون} فجاء كل ختام بما يناسب المقام ويقتضيه البيان.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة