الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ولا أقول لكم إن ملك

ولا أقول لكم إن ملك

ولا أقول لكم إن ملك

في باب النظائر القرآنية نقرأ الآيتين التاليتين:

الآية الأولى: قوله عز وجل: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (الأنعام:50).

الآية الثانية: قوله عز شأنه: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين} (هود:31).

ففي الآية الأولى -آية الأنعام- تكرر ضمير الخطاب المجرور من قوله {لكم} أما في الآية الثانية -آية هود- فلم يتكرر ضمير الخطاب {لكم} فما وجه تكراره في الآية الأولى، وعدم تكراره في الآية الثانية؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي عن هذا السؤال بما حاصله: أن الوارد في سورة هود إنما هو حكاية ما قاله نوح عليه السلام لقومه، متلطفاً ومشفقاً من حالهم، حيث استفتح خطابه لهم بقوله: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} (هود:28) وقوله: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون} (هود:29) وقوله: {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} (هود:30) وواضح مما تقدم جليل ملاطفته عليه السلام، وما يُفهم من كلامه من عظيم الإشفاق من حالهم، وإرادته ما به نجاتهم من العذاب، ومن أخذهم بأفعالهم، فهذا كله استلطاف في الدعاء، لا يلائمه تكرار كلمة تُفْهِمُ تعنيفاً، أو توبيخاً، والتأكيد والتكرار يُفهم ذلك.

أما قوله تعالى في آية الأنعام: {ولا أقول لكم إني ملك} فوارد في سياق كلام أمره صلى الله عليه وسلم بتبليغه عتاة قريش والعرب؛ توبيخاً لهم، وتقريعاً، فقيل له: {قل} والمراد: قل لهم يا محمد: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} ولم يؤمر أن يقول هذا لأبى بكر وعمر وخاصة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، إنما عنى به من يقول: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} (الفرقان:7-8) فمن يصدر عنه هذا وأشباهه، مما ينبئ عن الازدراء وفساد الظاهر والباطن، فهم المقول لهم: {لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} فتكرر فيها قوله: {لكم} تأكيداً، يُفْهِمُ التعنيف والتبكيت، ويناسب التوبيخ والتقريع.

ونظير هذا، قوله تعالى في خطاب عيسى عليه السلام: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} (المائدة:110) فكرر قوله: {بإذني} لما يتضمنه من توبيخ مَن جَعَل عيسى عليه السلام إلهاً، واتخذه معبوداً، فخاطب عيسى عليه السلام، وهو المحفوظ المعصوم من توهم استبداد جلَّ قدره صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن هذا كما قيل له صلى الله عليه وسلم: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة:116) والمراد بذلك تقريع مَن اتخذه عليه السلام إلهاً.

فتحصل أنه لما كان القصد في آية الأنعام الإشعار بالتقريع والتوبيخ كرر ضمير الخطاب {لكم} للمخاطبين، ولما لم يكن ذلك مقصوداً في آية هود، لم يرد فيها تأكيد ولا تكرار، وجاء كلٌّ على ما يناسب.

وقريب من توجيه ابن الزبير توجيه ابن عاشور، حيث قال: (اللام) في {لكم} لام التبليغ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر الموَاجَه بالقول، كما هو الحال في آية سورة هود؛ لظهور أن الموَاجَه بالقول هم المكذبون؛ ولذلك ورد قوله تعالى: {ولا أقول إني ملك} (هود:31) مجرداً عن (لام) التبليغ. فإذا كان الغرض ذكر الموَاجَه بالقول، فـ (اللام) حينئذ تسمى لام تعدية فعل القول، فالذي اقتضى اجتلاب هذه (اللام) في آية سورة الأنعام هو هذا القول، بحيث لو قاله قائل لكان جديراً بـ (لام) التبليغ.

وقد أجاب ابن جماعة جواباً مقتضباً عن السؤال الذي اُفتتح به المقال، فقال: "إن آية هود تقدمها {لكم} مرات عدة، فاكتفى به تخفيفاً، ولم يتقدم في آية الأنعام سوى مرة واحدة". وواضح أن جواب ابن جماعة يأخذ منحى آخر غير الذي ذكره ابن الزبير وابن عاشور، لكن لا يتعارض مع ما ذكراه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة