الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإسلام يهْدِم ما كان قبْله

الإسلام يهْدِم ما كان قبْله

الإسلام يهْدِم ما كان قبْله

مِنْ فضل الله تعالى ورحمته أن جعل الإسلام هادماً لِمَا كان قبله من الكفر والذنوب والمعاصي، فإذا أسلم الكافر غفر الله عز وجل له كل ما تقدَّم مِنْ فعله أيام كفره، وصار نقياً من الذنوب كلها، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}(الأنفال:38). قال ابن كثير: "يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، يُغْفَر لهم ما قد سلف، أي: من كفرهم، وذنوبهم وخطاياهم".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحداث الدالة على أن الإسلام يهدم ويمحو ما كان قبله من كفر، ومن ذلك:

ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ قوماً كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وانتهكوا، فأتَوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمَّد! إنَّ الَّذي تقول وتدعو إليه لَحَسَن! لو تُخبِرنا أنَّ لِمَا عمِلنا كفَّارة؟ فأنزل الله عزَّ وجّل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ} إلى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}(الفرقان: 70:68)، قال: يُبدِّل اللهُ شِركَهم إيماناً، وزناهم إحصاناً، ونزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُّمر:53)) رواه النسائي وصححه الألباني.

ـ عن عبد الرحمن بن شِمَاسَة المهْري قال: (حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت (في حال حضور الموت) فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنّ أفضل ما نعدّ: شهادة ألا إله إلّا الله وأنَّ محمّدا رسول الله، إنّي كنت على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث): لقد رأيتُني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منّي، ولا أحبّ إليَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال، لكنتُ من أهل النّار، فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردْتُ أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغْفَر لي، قال: أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟!) رواه مسلم. وفي رواية لأحمد صححها الألباني، قال عمرو بن العاص: (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو أما علمتَ أن الهجرة تجبُّ (تمحو وتهدم) ما قبلها من الذنوب، يا عمرو: أما علمتَ أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يهدم ما كان قبله) أي يسقطه ويمحو أثره .. أما أحكامه (هذا الحديث) ففيه عِظَم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحدٍ منها يهدم ما كان قبله من المعاصي".

وقال الطيبي: "الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقا، مظلمة كانت أو غير مظلمة، كبيرة كانت أو صغيرة، فأما الهجرة والحج فإنهما لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما أيضا بغفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيُحْمَل الحديث على أن الحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من الصغائر، ويحتمل أنهما يهدمان الكبائر أيضا فيما لا يتعلق به حقوق العباد بشرط التوبة، عرفنا ذلك من أصول الدين، فرددنا المُجْمَل إلى المُفصَّل، وعليه اتفاق الشارحين". وقال المناوي: "وإنما ذكر الهجرة والحج مع الإسلام تأكيدا في بشارته وترغيبا في متابعته، وفيه عظم موقع كل من الثلاثة، وأن كل واحد بمفرده يكفر ما قبله ذكره شارحون".
وقال القاضي عياض: "قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجبُّ ما قبله، والهجرة تهدم ما قبلها)، وذكر فى الحج مثله أى من أعمال الشرك، إذ عنها طلب عمرو الغفران، ثم من مقتضى عموم اللفظ يأتى على الذنوب، لا سيّما مع ذكره الحج، فقد يكون ذكره الهجرة كناية عن الإسلام فيَجُّب ما قبله من الكفر وأعماله، وهى مسألة عمرو، وذكَرَ الحجَّ ليُعلمه أيضًا أن: {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات}(هود: 115)".
وقال ابن عثيمين: ".. ثلاثة أشياء: أما الإسلام فإنه يهدم ما كان قبله بنص الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ}(الأنفال:38)، والهجرة: إذا هاجر الإنسان من بلده التي يعيش فيها وهي بلد كفر هدمت ما قبلها، والحج يهدم ما قبله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)".

ـ وفي قصة ثمامة بن أثال الحنفي لما أسلم: (فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري، قال النووي: "أي بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام، وأن الاسلام يهدم ما كان قبله".

ـ وفي قول أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن قتل رجلا من المشركين قال: "لا إله إلا الله" ـ: (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال أسامة: فمازال يُكرِّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) رواه البخاري، قال النووي: "وقول أسامة: (حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) معناه: لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم، وقال هذا الكلام من عِظم ما وقع فيه".

ـ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال أُنَاسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا فى الجاهلية؟ قال: أما مَنْ أحسن منكم فى الإسلام فلا يؤاخَذ بها، ومن أساء أُخِذَ بعمله فى الجاهلية والإسلام) رواه مسلم.
قال القرطبي: "الإساءة هنا بمعنى الكفر، إذ لا يصح أن يراد بها هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يُعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك باطل بالإجماع". وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "وأما معنى الحديث فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين: أن المراد بالإحسان هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعاً، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يُغْفَر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح: (الإسلام يهدم ما قبله)، وبإجماع المسلمين. والمراد بالإساءة: عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقاداً فى الظاهر، مظهراً للشهادتين غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها لأنه مستمر على كفره".

السيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على أن الإسلام يهدم ويمحو ما كان قبله من الكفر والكبائر والصغائر من الذنوب، لأن من معاني الدخول في الإسلام: التوبة من عبادة الأوثان والمعاصي، والدخول في عبادة الله عز وجل وطاعته والتزام شرعه، وهذه الحسنة العظيمة ـ وهي الإسلام ـ تجُبُّ وتهدم سيئة الشرك، وما كان دونه من الجُرْمِ والإثم من باب أوْلى. فمن تطهر من كفره، وأسلم وتاب إلى ربه، فلا نظر إلى ماضيه، بل ينضمّ إلى الأمة المسلمة عضواً كريماً فيها، وتُغفر سيئاته الماضية، ليستقبل ـ بصالح عمله ـ حياته الجديدة.. فليبشر كل من دخل الإسلام بالثواب العظيم والمغفرة التامة عن كل ما صدر منه في كفره إذا صدق مع الله عز وجل في إسلامه وإيمانه، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}(الأنفال:38)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: (أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله) رواه مسلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة