الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حذف القول في القرآن الكريم

حذف القول في القرآن الكريم

حذف القول في القرآن الكريم

من أساليب القرآن البلاغية أسلوب حذف القول، وحاصل هذا الأسلوب أن يُحذف (القول) ويبقى (المقول) طلباً للإيجاز، الذي هو وجه من وجوه الإعجاز. وهذا الأسلوب تكرر كثيراً في القرآن الكريم، وقد أبان عن هذا التكرار العديد من المفسرين في تفاسيرهم، نذكر من أقوالهم التالي:

قول القرطبي في "جامعه": "وحذف القول كثير". وقوله أيضاً: "حذف القول قد كَثُرَ، حتى صار بمنزلة المذكور".

وقال أبو حيان الأندلسي في "محيطه": "حذف القول في مواضع كثيرة".

وقال السبكي في "برهانه": "حذف القول قد كثر في القرآن العظيم، حتى إنه في الإضمار بمنزلة الإظهار".

وقال الشيخ رشيد رضا في "مناره": "وذكر المقول مع حذف القول كثير في الكلام البليغ، وله مواضع في الكتاب، لا يقف الفهم في شيء منها". وقال أيضاً: "وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخُلَّص".

وقال ابن عاشور في "تحريره": "وحذف القول كثير الورود في القرآن، وهو من ضروب إيجازه". وقال أيضاً: "وحذف القول استعمال شائع". وقال كذلك: "باب حذف القول باب متسع".

والغرض من حذف القول هو الإيجاز كما ألمعنا، ويُعدُّ الإيجاز في الكلام من بلاغة المتكلم، قال الشيخ رشيد رضا: "حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب".

وحذف القول إنما يكون إذا دلت قرينة تفيد هذا الحذف، فإن لم تك ثمة قرينة تدل على الحذف، فلا يُقدَّر حذف القول، وفي هذا يقول ابن عاشور: "وحذف القول كثير في القرآن، إذا دلت عليه قرينة الكلام". وقال أيضاً: "وحذف القول شائع في القرآن بدلالة القرائن".

وها هنا أمثلة توضح أسلوب حذف القول في القرآن الكريم، وتفصل بعض القول فيه:

* قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين ما سلككم في سقر} (المدثر:38-42) أي: يتذاكرون شأن المجرمين، فيقول من علموا شأنهم: سألناهم، فقلنا: ما سلككم في سقر، قال الزمخشري في "الكشاف" قوله: {ما سلككم في سقر} ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئولين، أي أن المسئولين يقولون للسائلين: قلنا لهم: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين} (المدثر:42-43).

* قوله سبحانه: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام:104) خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام مقول لفعل أمر بالقول في أول الجملة، حُذف على الشائع من حذف القول للقرينة في قوله تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام:104). والتقدير: قل يا محمد: {قد جاءكم بصائر} الآية.

* قوله عز وجل: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} (الأنعام:63) جملة {لئن أنجانا} في محل نصب بقول محذوف، أي: قائلين: {لئن أنجانا}.

* قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} (الأنعام:97) جملة: {أخرجوا أنفسكم} مقول لقول محذوف، والقول على هذا من جانب الله تعالى، والتقدير: نقول لهم: {أخرجوا أنفسكم} الآية.

* قوله سبحانه: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} (البقرة:63) جملة {خذوا ما آتيناكم} مقول لقول محذوف، يدل عليه نظم الكلام، أي: فقلنا: {خذوا}. ومثلها في سورة الأعراف.

* قوله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} (الصافات:22) {احشروا} أمر، وهو يقتضي آمراً، أي ناطقاً به، فهذا مقول لقول محذوف؛ لظهور أنه لا يصلح للتعلق بشيء مما سبقه، وظاهر أنه أمر من قِبَل الله تعالى للملائكة الموكلين بالناس يوم الحساب.

* قوله تعالى: {ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد} (فصلت:47) جملة {أين شركائي} مقول قول محذوف، كما صرح به في آية أخرى {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} (القصص:65) وقوله سبحانه: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} (القصص:74).

* قوله عز وجل: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} (الشورى:10) (الواو) عاطفة فعل أمر بالقول؛ لأن مادة (الاختلاف) مشعرة بأنه بين فريقين، وحالة الفريقين مشعرة بأنه اختلاف في أمور الاعتقاد التي أنكرها الكافرون من التوحيد والبعث والنفع والإضرار.

* قوله تعالى: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} (الذاريات:50) الجملة المفرعة بـ (الفاء) مقول قول محذوف، والتقدير: فقل: فروا، دلَّ عليه قوله عز وجل: {إني لكم منه نذير مبين} فإنه كلام لا يصدر إلا من قائل، ولا يستقيم أن يكون كلام مبلغ، فـ (الفاء) من الكلام الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفادها التفريع على ما تقرر مما تقدم.

* قوله سبحانه: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم} (الرعد:23-24) أي: يقولون: {سلام عليكم} فأضمر القول، أي: قد سلمتم من الآفات والمحن.

* قوله عز وجل: {ربنا ما خلقت هذا باطلا} (آل عمران:191) أي: يقولون: ما خلقته عبثاً وهزلاً، بل خلقته دليلاً على قدرتك، وبرهاناً على حكمتك.

* قوله تعالى: {لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء:3) قيل في {الذين ظلموا} أقوال، منها أنه مرفوع بحذف القول، والتقدير: يقول الذين ظلموا. واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده {هل هذا إلا بشر مثلكم} (الأنبياء:3).

* قوله سبحانه: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} (الأنبياء:97) التقدير: قالوا: {يا ويلنا} وهو قول الزجاج، قال القرطبي: وهو قول حسن.

* قوله عز وجل: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} (البقرة:127) حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بنائهما الكعبة، وهو أنهما كانا يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وعليه قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

* قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} (الأعراف:49) أي: قيل لهم من قِبَل الرحمن عز وجل: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم} مما يكون في مستقبل أمركم، {ولا أنتم تحزنون} من جراء شيء ينغص عليكم حاضركم.

* قوله سبحانه: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} (آل عمران:106) الخبر هنا محذوف؛ للعلم به؛ ولأن (أما) لا بد لها في الخبر من (فاء) فلما أضمر القول، أضمر (الفاء) والتقدير: فيقال لهم: {أكفرتم

* قوله عز وجل: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3) أي: يقولون: ما نعبدهم إلا للقربة.

وعلى سَنَنِ ما تقدم قوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هذا ما توعدون ليوم الحساب} (ص:52-53) وقوله عز وجل: {لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} (الأنبياء:103) وقوله سبحانه: {لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون} (الواقعة:65-66) وقوله تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} (السجدة:12) وقوله سبحانه: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ:23).

فهذا ونحوه من الآيات الكريمات يدل على أن أسلوب حذف القول وإبقاء المقول كثير جداً في القرآن الكريم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة