الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كلوا من ثمره إذا أثمر

كلوا من ثمره إذا أثمر

كلوا من ثمره إذا أثمر

مما امتنَّ الله به على عباده ما نصت عليه الآية الكريمة: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام:141) فقد ذكَّر سبحانه الإنسان بنعمه في المأكولات، التي هي قِوام الأبدان، وأصل اللذات في الإنسان، عليها تنبني الحياة، وبها يتم طيب المعيشة، عدد أصولها تنبيهاً على توابعها، فذكر منها خمسة: الكَرْم، والنخل، والزرع، والزيتون، والرمان. فـ (الكَرْم) و(النخل) يؤكل في حالين: فاكهة، وقوتاً. و(الزرع) يؤكل في نوعين: فاكهة وقوتاً. و(الزيت) يؤكل قوتاً واستصباحاً. و(الرمان)يؤكل فاكهة محضة. وما لم يُذكر مما يؤكل لا يخرج عن هذه الأقسام الخمسة.

وقد تضمنت هذه الآية جملة من الأحكام نبينها وفق المسائل التالية:

المسألة الأولى: اختلف أهل العلم في هذه الآية اختلافاً كثيراً، وسبب اختلافهم هو اتفاقهم على أن سورة الأنعام نزلت بمكة، وأن الزكاة فُرضت بالمدينة، وعلى أنه لا حق في المال غير الزكاة. فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنها منسوخة بآية الزكاة، وهو اختيار الطبري. وذهب الجمهور إلى أنها محكمة.

المسألة الثانية: ذهب الزجاج إلى أن الآية بخصوصها مدنية، وإن كانت السورة مكية؛ إذ ليس ثمة دليل سمعي على تعيين نزول هذه الآية بمكة، وقد يطلقون ذلك على جملة السورة، وقد عُلِمَ أن بعضها غير داخل في ذلك الإطلاق، ألا نراهم يقولون: المائدة مدنية، وقد نزل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة:3) بعرفة.

المسألة الثالثة: اجتمع في قوله سبحانه: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} أمران: أحدهما يفيد الإباحة {كلوا} والثاني يفيد الوجوب {وآتوا} وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب؛ لما في ذلك من الفوائد، وما يترتب عليه من الأحكام، فأما الأكل فلقضاء اللذة، وأما إيتاء الحق فلقضاء حق النعمة، فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة، واستقامة الأعضاء، وسلامة الحواس، ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء، وقضاء اللذات، وبلوغ الآمال؛ ففرض الصلاة كفاء نعمة البدن، وفرض الزكاة كفاء نعمة المال. وبدأ سبحانه بذكر نعمة (الأكل) قبل الأمر بـ (إيتاء الحق)؛ ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف.

المسألة الرابعة: قوله سبحانه: {وآتوا حقه يوم حصاده} اختلف العلماء في تفسير هذا (الحق) على ثلاثة أقوال:

الأول: مذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف أن المراد بـ (الحق) في الآية الزكاة المفروضة، أمر الله سبحانه بها أمراً مجملاً، ثم بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة) متفق عليه، فكان هذا بياناً للمقدار الذي يؤخذ منه الحق، والذي يسمى في ألسنة العلماء نصاباً.

الثاني: قال مجاهد وبعض أهل العلم: المراد بـ (الحق) الصدقة غير المفروضة، تكون يوم الحصاد، وعند الصرام؛ وهي الإطعام من حضر، والإيتاء لمن غاب.

الثالث: ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وهي قوله سبحانه: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة:103)؛ لأن آية الأنعام مكية متقدمة، وآية التوبة مدنية متأخرة، والمتأخر ينسخ المتقدم عند التعارض وعدم إمكانية التوفيق. وهذا اختيار الطبري.

المسألة الخامسة: اختلف العلماء في الأموال النباتية التي تؤخذ منها الزكاة؛ فروي عن مالك والشافعي: أن الزكاة في كل مقتات. وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر. قال القرطبي: والصحيح في المسألة أن الخضراوات ليس فيها شيء.

وأظهر أقوال الإمام أحمد أن الزكاة تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق، فأوجبها في اللوز؛ لأنه مكيل دون الجوز؛ لأنه معدود، معوِّلاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة)؛ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الموسق، وبين القدر الذي يجب إخراج (الحق) منه.

المسألة السادسة: قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} هذا بيان لوقت إخراج زكاة الأموال النباتية، وقد جعل الشرع الحق الواجب مختلفاُ بكثرة المؤنة وقلتها؛ فما كان خفيف المؤنة، قد تولى الله سقيه ففيه العشر، وما عظمت مؤنته بالسقي الذي هو أصل الإتيان ففيه نصف العشر.

المسألة السابعة: اختلف العلماء في وقت وجوب الزكاة في الأموال النباتية على ثلاثة أقوال:

الأول: أنها تجب وقت الجِذاد -وهو القطف والقطع- قاله محمد بن مسلمة، وصحح القرطبي هذا القول؛ لنص الآية.

الثاني: أنها تجب يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب يكون علفاً، لا قوتاً، ولا طعاماً؛ فإذا طابت وكان الأكل الذي أنعم الله به، وجب الحق الذي أمر الله به؛ إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون (الإيتاء) يوم الحصاد لما قد وجب يوم الطيب. وهذا مذهب المالكية والشافعية، وصحح هذا القول ابن العربي المالكي في "أحكامه".

الثالث: أنه يكون بعد تمام الخَرْص -تقدير قيمة المزروعات- والمراد تقدير ما على النخل من الرطب تمراً.

المسألة الثامنة: أوجب سبحانه في هذه الآية الزكاة في الكرم والزروع والنخل مطلقاً، ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم النِّصَاب بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) -(الوسق) مكيال قدره حمل بعير = أو ستون صاعاً = ما يعادل (165) لتراً- فمن حصل له من تمر وزبيب معاً خمسة أوسق، أو من زبيب خمسة أوسق، وجبت عليه الزكاة فيها، فإن حصل له من تمر وزبيب معاً خمسة أوسق، لم تلزمه زكاته إجماعاً في الوجهين؛ لأنهما صنفان مختلفان. فإن حصل له البُرُّ والشعيرُ معاً خمسة أوسق زكَّاهما معاً عند مالك. وقال الشافعي: لا يُجمعان، وكذلك غيرهما، وإنما هي أنواع كلها يُعتبر النِّصابُ في كل واحد منها على الانفراد؛ لأنهما يختلفان في الاسم الخاص؛ وفي حالة الطعم. والصحيح ضمهما؛ لأنهما قوتان يتقاربان، فلا يضر اختلاف الاسم.

المسألة التاسعة: قال جمهور أهل العلم بوجوب زكاة الزيتون، وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا زكاة في الزيتون، قال: لأنه يؤكل إداماً، وأيضاً فإن التين أنفع منه في القوت، ولا زكاة فيه.

المسألة العاشرة: قال مالك في "الموطأ": السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شي من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفِرْسِك -نوع من الخوخ- والتين، وما أشبه ذلك، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه.

المسألة الحادية عشرة: أجمع أهل العلم على أنه لا يضاف التمر إلى البُرِّ، ولا البُرُّ إلى الزبيب، ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم. ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع.

المسألة الثانية عشرة: روى أبو داود أن رسول الله صلى عليه وسلم، قال: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون، أو كان بعلاً العُشْر، وفيما سُقِيَ بالسواني -الناقة التي يُسقى عليها- أو النضح نصف العُشْر) وكذلك إن كان يشرب سيحاً فيه العشر، وهو الماء الجاري على وجه الأرض. فذهب مالك إلى أنه يُنظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر، فيتعلق الحكم عليه. وروي عنه: إذا سُقِيَ نصفَ سنة بالعيون، ثم انقطع، فسُقِيَ بقية السنة بالناضح، فإن عليه نصف زكاته عُشراً، والنصف الآخر نصف العُشْر. وقال مرة: زكاته بالذي تمت به حياته. وقال الشافعي: يُزَكَّى كل واحد منهما بحسابه. وقال الحنفية: يُنظر إلى الأغلب فيُزَكَّى، ولا يُلْتَفَتُ إلى ما سوى ذلك. وروي هذا عن الشافعي. قال الطحاوي: واتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوماً أو يومين أنه لا اعتبار به، ولا يجعل لذلك حصة، فدل على أن الاعتبار بالأغلب.

المسألة الثالثة عشرة: إن لحقت الثمرةَ جائحةٌ بعد الخَرْص، وقبل القطف، سقطت الزكاة عنه بإجماع أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعداً. ومذهب مالك أن ما استهلكه صاحب الزرع من زرعه بعد بدو صلاحه، أو بعد ما أُفْرِك -أصل الفَرْك: دَلْك الشيء حتى يتقلع قشره عن لبه- حُسِب عليه، وما أعطاه صاحب الزرع منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تحرى ذلك وحُسِب عليه. وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس. وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شي على صاحبه عند جميع الفقهاء.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة