الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الموازنة النبوية بين الرُوحِ والجَسَد

الموازنة النبوية بين الرُوحِ والجَسَد

الموازنة النبوية بين الرُوحِ والجَسَد

بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بدين مُوافقٍ للفطرة البشرية، يُراعي حاجاتِ الروح ومَطالبَ الجسد، ويُوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وقد نصَّ القرآن الكريم على هذا التوازن في الكثير من الآيات، ومنها قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص:77)، قال ابن كثير: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولِزُورِك (ضيوفك) عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه".
وهدْي نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور والأفعال موافقٍ للفطرة البشرية السليمة، فهو يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد، ويوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم المأثور والمشهور عنه: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادى) رواه مسلم. وكان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) رواه مسلم.

والسيرة النبوية بأحداثها ومواقفها زاخرة بالأمثلة الدالة على الموازنة النبوية بين متطلبات الروح والجسد، ومن ذلك:
ـ عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مُبْتَذَلَة (لابسَةً ثِياب رثة تعمل بها في البيت تاركة لزينتها ـ وذلك قبل نزول آيات الحجاب ـ)، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام فذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصلينا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقا. ولنفسك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري.
ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي) رواه البخاري.
ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله: ألم أُخْبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلتُ: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك (ضيفك) عليك حقا) رواه البخاري.
ـ وروى مسلم في صحيحه عن حنظلة رضي الله عنه قال: قال: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد وَالضَّيْعَاتِ (مَعاش الرَّجلِ مِن مالٍ أو حِرفَةٍ أو صناعة)، فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلتُ: يا رسول الله، نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة: ساعة، وساعة، ثلاث مرات). ومعنى (ساعة، وساعة) أي: ساعة تعبد فيها الله، وساعة أخرى تقيم حياتك وتؤدي الحقوق التي عليك وِفْق ما شرعه الله لك، وليس المقصود بساعة وساعة أن تعبد الله ساعة، ثم تعصيه ساعة أخرى.
قال النووي: "قوله: (نافق حنظلة) معناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك".
وقال ابن عثيمين: "يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم".

أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمَ بالمحافظة على عبادته لربه، وأرشده إلى ألّا يَشقّ على نفسه بالمبالغة فيها، وحثّه على تحقيق التوازن والاعتدال بين حاجات روحه ومتطلبات جسده، فيعطي نفسه حقّها في التمتّع بالمباحات، ولكن دون اقترابٍ من فعل الذنوب والمعاصي، والميزان الصحيح الضابط لميزان الاعتدال والتوازن يكون بعرض المسلم نفسه وأفعاله وأقواله على هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ وافق عمله وحاله ذاك الميزان فهو على خير، وإلّا أعاد ترتيب نفسه وأفعاله وِفْق هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: (فمن رغب عن سنتي فليس منا)، قال ابن قدامة: "وفي اتباع السُنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة (أمان واستراحة) البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة