الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

(التَّوَّابُ) مِنْ أسماء الله الحُسْنى

(التَّوَّابُ) مِنْ أسماء الله الحُسْنى

(التَّوَّابُ) مِنْ أسماء الله الحُسْنى

الله عزَّ وجل هو التَّوَّابُ الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عَبادِه، فَمَا مِنْ عَبْدٍ وقع في الذنوب صغيرها وكبيرها ثُمَّ رجع وتاب إليهِ سبحانه، إلَّا قبِل توبته وتاب عليه وفَتَحَ له أبْوَابَ رحمته، ما لمْ يُدْرِكْه الموتُ ولم تبلغ روحُه الحُلْقُوم. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَال: (إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرغِرْ) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال ابن بطال: " وقد ثبت بالكتاب والسنة أن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبْض روحه".
ومِن المعلوم والمُجْمَع عليه عند أهل السُنَّة أن أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، يجب الوقوف فيها على ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَص. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) رواه البخاري. قال النووي: "واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين مَنْ أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (أسألك بكل اسم سمَّيْتَ به نفسك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك.. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (من أحصاها دخل الجنة) فاختلفوا في المراد بإحصائها، فقال البخاري وغيره مِن المحققين معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر، لأنه جاء مُفَسَرَّاً في الرواية الأخرى من حفظها، وقيل: (أحصاها): عدها".

و"التَّوَّابُ" اسم مِنْ أسماء الله الحًسْنَى، والتَّوَّابُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغ المُبَالَغةِ على وزن فعَّال، لأن المعاصي تأتي من الخلق متكررَّة ومبالغًا فيها، فكان ذلك مناسبًا ليقابل الخطايا الكبيرة والذنوب العظيمة بالتوبة الواسعة، فإنه سبحانه يغفر الذنوب كلها مهما كثرت وعظمت. قال المباركفوري: "(التَّوَّابُ) أي: الْكَثِيرُ الْقَبُول لِتَوْبَة التَّائِبِين.. الذي يَقْبَل تَوْبَةَ عِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى".
وقد ورد اسم الله "التواب" في القرآن الكريم إِحْدَى عَشْرَة مَرَّة، منها:
1 ـ قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(البقرة:37). قال السعدي: "{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} لِمَن تاب إليه وأناب. وتوبته نوعان: توفيقه أولا ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. {الرَّحِيمِ} بعباده، ومِنْ رحمته بهم، أن وفقهم للتوبة، وعفا عنهم وصفح". وقال أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى: "{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أَيْ: يَتُوبُ عَلَى العِبَادِ، والتَّوَّابُ مِنَ النَّاسِ الذِي يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ".
2 ـ وقال الله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(البقرة:160). قال السعدي: "{التَّوَّابُ} أي: الرجَّاع على عباده بالعفو والصفح، بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع إذا رجعوا".
3 ـ وقال الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(التوبة:104). قال قتادة: "{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}" إن الله هُوَ الوَهَّاب لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إلى طاعته، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عنه". وقال السعدي: "{التَّوَّابُ} الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى اللَّه توبة نصوحاً، تاب اللَّه عليه. فهو التائب على التائبين: أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه. وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم".
4 ـ وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}(النور:10). قال ابن كثير: "{وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} أي: على عباده .. {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه". وقال الطبري: "ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم، وسياسته لهم، لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلا رحمة منه بكم، وتفضلا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه".
وكذلك ورد اسم الله "التواب" في الكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه أبو داود وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن كنَّا لنعدُّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المَجلِسِ الواحدِ مائةَ مرَّةٍ: ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحيم). قال العيني في " شرح سنن أبي داود": "كان صلى الله عليه وسلم يسْتغفر في المجلس الواحد مائة مرة، فغيره الذي هو غريق في الذنوب بالأوْلى والأحْرى أن يكثر الاستغفار، على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان فعله ذلك تعليمًا لأمته، وإرشادا لهم إلى طريق الاستغفار".

الله عز وجل هو التواب، يتوب على عباده، ويوفقهم إلى التوبة، وييسرها لهم، ثم يقبلها منهم. فهو (التواب) الذي ييسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد مرة بما يُظهِر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تخويفاته للعاصين وبشرياته للتائبين، حتى ينتهوا عن المعاصي ويرجعوا إليه تائبين، فيتوب عليهم ويغفر لهم. فهو سبحانه التائب على التائبين أولاً بتوفيقهم للتوبة، وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم. قال الله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(التوبة:118). قال الطبري: "{ِإِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} يقول: إن الله هو الوهّاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفقُ من أحبَّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه. {الرَّحِيمُ}، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبةَ والإنابةَ ولا يتوب عليه".
قال الخَطَّابِيُّ: "(التَّوَّابُ): هو الذي يَتُوبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَه، كلما تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُول". وقال الحُلَيمِيُّ في "المنهاج": "(التَّوَّابُ) وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِه إذا هو رجع إلى طاعته، وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِه، وَلاَ يُحْبِطُ بِمَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ، ولا يَمْنَعُه مَا وَعَدَ المُطِيعِين مِنَ الإِحْسَان". وقال البَيْهَقِيُّ في "الاعتقاد": "هو الذي يَتُوبُ على مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِه".
وقال ابن القيم:
وكذلك التواب من أوصافه والتواب في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبده وقبولها بعد المتاب بمِنَّة المنَّان

واسم الله عز وجل "التواب" له من الآثار الإيمانية الكثير، منها: أنْ يُصْبِح الإنسان ويُمْسِي معترفاً بذنبه ومشفقاً منه، خائفاً من ربه عز وجل، راجياً رحمته وعفوه، تائباً إليه، سائلا ربه قبوله لتوبته، مؤمناً وموقنا أن ربه سبحانه هو "التواب".
ومنها: محبة الله عز وجل والأنس به، لأنه سبحانه "التواب الرحيم" بعباده، ومن رحمته بهم ولطفه بهم أنه يوفق مَنْ شاء منهم إلى التوبة والرجوع إليه، وييسر لهم أسبابها، ثم يقبِلها منهم، بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إليه أشد ما يكون من الفرح كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح..
ومن الآثار الإيمانية لاسم الله "التواب": الحياء من الله تعالى، الذي يوفق عبده للتوبة، ويقبلها منه، ويغفر له ذنوبه كلها، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيمًا لله عز وجل، وحياءً منه سبحانه، ومسارعة إلى طاعته، واجتناباً لمعصيته، ومبادرة إلى التوبة النصوح عند الوقوع في المعصية مهما كان عِظَمُها، وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، لأنه سبحانه "التواب الرحيم، الغفور الودود"، الذي يوفق عبده للتوبة ويقبلها منه، ويغفر الذنوب جميعا.. قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}(غافر:3:2). قال ابن كثير: "أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المُسْتَقبَل لِمَنْ تاب إليه".
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "إن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبةٍ مِنَ الله عليه قبْلها وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين مِنَ الله: سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولا إذناً وتوفيقاً وإلهاما، فتاب العبد فتاب الله عليه ثانياً قبولاً وإثابة.. فالعبد تواب والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق (الخطأ والمعصية)، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإمداد".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة