الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معالجات نبوية لغريزة الشهوة

معالجات نبوية لغريزة الشهوة

معالجات نبوية لغريزة الشهوة

تمتاز الشريعة الإسلامية بميزات كثيرة من أهمها الواقعية والإنسانية، فهي تتعامل مع الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها، قدراته، وغرائزه، وطبائعه، كل ذلك مكشوف على الحقيقة أمام هذه الشريعة، فهي تتعامل معه على علم تام بنوازعه وميولاته، وذلك مصداق قوله تعالى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، فلا غرابة أن نجدها دقيقة التوجيه والترشيد، وعلى سبيل المثال فقد اعتنت الشريعة بتوجيه الإنسان في التعامل مع الشهوة والغريزة الجنسية، على خلاف الثقافات الأخرى التي تعاملت معها بسلبية بائسة، كشفت عن مدى التخلف والعشوائية في تلك الثقافات، وعدم صلاحيتها لإدارة هذا الإنسان، وتوجيه نشاطاته وانفعالاته.

يقول أبو الحسن الندوي في كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: "وأما الشهوة فقد امتازت بها ديانة الهند ومجتمعها منذ العهد القديم، فلعل المواد الجنسية والمهيجات الشهوية لم تدخل في صميم ديانة بلاد مثل ما دخلت في صميم الديانة الهندية، زاد إلى ذلك عبادتهم لآلة التناسل لإلههم الأكبر "مهاديو "، وتصويرها في صورة بشعة، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات، ونقل عن بعض المؤرخين أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات والنساء يعبدن الرجال العراة...هكذا أخذت البلاد موجة طاغية من الشهوات الجنسية والخلاعة، وأسفّت أخلاق الجنسين إسفافًا كبيرًا". انتهى

ويقول ول ديورانت في قصة الحضارة، وهو يتحدث عن المجالات الأخلاقية في اليونان قديما: "وقد كانت الأعياد الكبرى، وهي دينية في أصلها، صمامات الأمان لما طبعت عليه البشرية من شهوة جنسية مختلطة؛ فكانوا في هذه المناسبات يتغاضون عن التحرر من القيود في العلاقات الجنسية، وكانت أثينة تعترف بالبغاء رسميًا وتفرض ضريبة على البغايا، وأصبح العهر في أثينة، كما أصبح في معظم مدن اليونان، مهنة كثيرة الرواد، ذات فروع مختلفة لكل فرع أخصائيات، وكانت السبيل ميسرة أمام ذات الكفاية للترقي في هذه المهنة". انتهى، وقد ذكر من تفشي الفواحش وانفلات الشهوات ما ينبو عن فطرة الإنسان السوية.

لكن لو ألقينا نظرة سريعة في تعامل الشريعة الإسلامية مع قضية الغريزة الجنسية لوجدنا الحلول المتوازنة، والمعالجات المتلائمة مع الطبيعة البشرية، حيث نظر الإسلام إليها على أنها غريزة مخلوقة في الإنسان لا يمكن حرمانه منها، ولا يمكن الاستسلام لها، لأن في الحالتين ضررًا على الإنسان، فعالجت السنة النبوية هذا الموضوع بحلول متوافقة مع الخلقة البشرية والفطرة السليمة.

ومن أهم الحلول النبوية: الترغيب في الزواج، والحث عليه، من خلال مخاطبة فئة الشباب على وجه الخصوص، بالمبادرة إلى الدخول في حصن النكاح الآمن، إشباعًا لرغبة الإنسان، وحفظًا للنوع الإنساني المكرم.
فقد روى الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
قال ابن القيم في الطب النبوي: فدل المحبَّ على علاجين: أصلي، وبدلي، وأمره بالأصلي (النكاح)، وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا. انتهى.
فالزواج هو الحل الأصيل لقمع حدة الشهوة، وهو سنة المرسلين، وسبيل أهل العفاف، وهو أنجع الحلول لكسر سوْرة الشهوة، وهو ملاذ الصالحين عند اشتداد الفتن، فكيف يمكن اليوم لشاب يعزف عن الزواج مع شدة حاجته إليه، وانفتاح أبواب الفتن عليه.
وفي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "«لم ير للمتحابين مثل النكاح». رواه ابن ماجة وصححه الألباني. ورواه ابن النجار بلفظ: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله عندنا يتيمة خطبها رجلان موسر ومعسر وهي تهوى المعسر فقال رسول الله ﷺ «لم ير للمتحابين مثل النكاح». فالنكاح علاج العشق كما قال الحكماء.
ومن الحلول الوقائية في التوجيهات النبوية: سد كل الأبواب المثيرة للشهوة، ومن أهمها النظر، وهو بلية العصر اليوم، حيث أصبحت صور المرأة تطارد الإنسان في كل مجالات الحياة، مما يجعل المسلم أمام ابتلاء حقيقي، وقد كثرت التوجيهات النبوية التي ركزت على موضوع النظر، باعتباره بوابة لكل شر وفساد إذا أطلقه صاحبه في الحرام.
ففي الحديث عن بريدة قال: «قال رسول الله - ﷺ - لعلي: يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة». رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والدارمي.
وفي حديث جابر بن عبد الله في وصف حجة النبيﷺ قال: فلما دفع رسول الله - ﷺ - مرَّتْ ظُعُنٌ يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهنَّ، فوضع رسول الله - ﷺ - يَدَهُ على وجهِ الفضل، فحوَّلَ الفضل وجهه إلى الشِّقِّ الآخر ينظُرُ، فحول رسول الله - ﷺ - يده من الشِّقِّ الآخر على وجهِ الفضلِ، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظرُ". رواه مسلم، قال القاضى عياض: وعندى أن فعله فى ذلك أبلغ فى النهى من القول.
وفي حديث جابر بن عبد الله قال: «سألت رسول الله - ﷺ - عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري». رواه مسلم.
ورغب النبي - ﷺ - المسلم بغض بصره، ورتب عليه ثمرة روحية عظيمة، كما في حديث أبي أمامة عن النبي - ﷺ - قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها». رواه الإمام أحمد.
قال رسول الله ﷺ أيضا: «ثَلاثَةٌ لا تَرى أعْيُنُهُمُ النّارَ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وعَيْنٌ بَكَتْ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، وعَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ» رواه الطبراني وصححه الألباني.
وسواء كان النظر من الرجل أو من المرأة فهو من أبواب إثارة الشهوة، وقد نبهت السنة إلى هذا الاشتراك في حديث أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - ﷺ - وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه فقال رسول الله - ﷺ -: "احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا! قال رسول الله - ﷺ -: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه». رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود.

ومن العلاجات الوقائية التي أرشد إليها النبي - ﷺ - الابتعاد عن الخلوة بالمرأة، فإن ذلك من فتح أبواب الشهوات التي لا يقدر الإنسان معه على التحكم في شهوته، ولا يبتلي الإنسان نفسه بمثل ذلك.
وفي حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - ﷺ -: «إياكم والدخول على النساء. فقال رجل: يا رسول الله أرأيت الحمو قال: الحمو الموت». متفق عليه.
وفي حديث عمر عن النبي - ﷺ - قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان». رواه الترمذي.
وفي حديث جابر عن النبي - ﷺ - قال: «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، قلنا: ومنك يا رسول الله؟ قال: ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم». رواه الترمذي.

ومن الحلول الوقائية: أن لا توصف المرأة للرجل وصفا يثير ما في نفسه، ففي حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». متفق عليه.
قال المناوي في فيض القدير: والمباشرة كناية عن النظر إذ أصلها التقاء البشرتين فاستعير إلى النظر إلى البشرة يعني لا تنظر إلى بشرتها (فتنعتها) أي تصف ما رأت من حسن بشرتها وهو عطف على تباشر (لزوجها كأنه ينظر إليها) فيتعلق قلبه بها فيقع بذلك فتنة.
ومن الحلول النبوية التي أرشد بها المتزوجين: المسارعة إلى قضاء الوطر كلما رأى ما يثير شهوته، ويبادر إلى الحلال فهذا علاجه، كما في حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه». رواه مسلم.
وهذا التوجيه النبوي صالح للزوج كما هو صالح للزوجة أيضا، ففي بعض الروايات عن ابن مسعود قال: رأى رسول الله - ﷺ - امرأة فأعجبته فأتى سودة وهي تصنع طيبا، وعندها نساء، فأخلينه فقضى حاجته، ثم قال: أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها». رواه الترمذي.

ويهتدى بهذه التوجيهات النبوية التي ترشد إلى حسم أبواب الإثارة الشهوانية، فيقاس عليها كل ما من شأنه أن يفعل فعلها، بل بعضها يقاس بطريق الأولى كالنظر المحرم للمقاطع المحرمة، والصور الفاحشة، وكلما كان المسلم غافلا عن أبواب الفتنة كان أسلم لقلبه ودينه.

ومن المعالجات النبوية: تحصين الشباب بزاد وفير من التقوى والقيم الإنسانية التي تجعله صلبًا قادرًا على قهر شهوته والتغلب عليها، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه شاب يريد أن يرخص له في الزنا:
روى الأمام أحمد في مسنده، عن أبي إمامة الباهلي، قال: "إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه! فقال: ادنه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال، فوضع يده عليه، وقال اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
ففي هذا الحديث عالج النبي صلى الله عليه وسلم شدة الغريزة عند الشباب بطريقة نفسية جعلت هذا الشاب يكره الزنا، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم صورة كل محارمه بينه وبين التفكير في الفاحشة، والإنسان السوى بطبيعته غيور لا يرضى الفاحشة في أهله، فإذا فكر هذا الشاب في الفاحشة تراءت أمامه صورة أمه وأخته وباقي محارمه، مما يجعله بعد ذلك لا يفكر مجرد التفكير في هذا الموضوع.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة