الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المَقْبول والمَحْروم في رمضان

المَقْبول والمَحْروم في رمضان

المَقْبول والمَحْروم في رمضان

شهر رمضان هو شهر الصيام والقرآن، شهر العِتق والغفران، شهر تُفتح فيه أبواب الجنات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُغفر فيه السيئات، ويُنادي فيه منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في هذا الشهر، وذلك كل ليلة.. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُبَشِّرُ أصحابه رضوان الله عليهم بقدومه لِمَا فيهِ مِنَ الفضائل والخيرات، فكان يقول: (أتاكم شهرُ رمضان، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّة، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ (تُشَدُّ الأغلالُ والسَّلاسِلُ) فيه مَرَدَةُ الشياطين (رُؤساءُ الشَّياطين)، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم) رواه النسائي وصححه الألباني.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن حاله في شهر رمضان كحاله في غيره من الشهور، فقد كان يومه وشهره مليئا بالطاعات، وذلك لعلمه بما لهذا الشهر من فضل خصه الله به، قال ابن القيم في "زاد المعاد": "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل ـ عليه السلام - يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيـه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن والصلاة والذكر، والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة".
والفائز المقبول في شهر رمضان هو الذي يعرف حال وهَدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي حياته كلها فيقتدي به، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21}. قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".

والمسلم يحمد ويشكر ربَّه على أن بلغه شهر رمضان وهو ما زال حيَّاً يُرْزَق، وعليه أن يُحْسِن استقباله والاستعداد له، والعمل والعبادة فيه، حتى يعُمَّ عليه خيره وفضله، ويكون فيه من المقبولين الرابحين، الفائزين بمغفرة الله تعالى والعتق من النيران. عن الحسن قال: "إن الله جعل شهر رمضان مِضماراً (سباقاً) لِخَلْقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون". وعن علي رضي الله الله عنه أنه قال: "كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري مَن المقبول فنهنيه، ومَن المحروم فنعزيه". فالناس في شهر رمضان ما بين فائز مقبول، أو خاسر محروم.

أولا: الفائز المقبول:
ـ الفائز المقبول في شهر رمضان هو الذي يهتم برمضان اهتماماً بالغاً، ويحرص على استغلاله في الطاعات والقربات، ويسابق فيه إلى الخيرات، فما من مجال من مجالات الطاعة والعبادة إلا ويجتهد فيه. فيصوم النهار ويقوم الليل امتثالا وعملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه)، وقوله: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه) رواه البخاري. قال ابن بطال: " قوله: (إيمانًا) يعنى مصدقًا بما وعد الله من الثواب عليه، وقوله: (احتسابًا) يعنى يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى". وقال الكرماني: "اتفقوا على أن المراد بقيامه صلاة التراويح".
ـ الفائز المقبول في رمضان هو الذي أمسك وامتنع عن جميع المفطرات الحِسِّيَة والمعنوية، وتنافس فيه في الطاعات والقربات، وابتعد عن المعاصي والسيئات، وتحلى فيه بمحاسن الأخلاق والصفات.
ـ الفائز المقبول في شهر رمضان هو الذي يُشغل لسانه بذِكْر الله، ويحفظ وجوارحه عن الزلل والوقوع في المحرمات، فيغض البصر عن النظر إلى كل ما حرم الله، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}(النور:30). وكذلك يكف سمعه عن الإصغاء إلى كل مكروه، ويحفظ لسانه عن الكذب والغيبة، والنميمة والفحش، والخصومة والمِراء، وإذا سابّه أحداً أو شاتمه قال: إني صائم، عملا بتوجيه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنَّةٌ (وِقايةٌ مِن المَعاصي)، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) رواه البخاري.
ـ الفائز المقبول في رمضان هو الذي يجتهد مع القرآن الكريم في رمضان أكثر من غيره، ويكثر من قراءته وختمه عدة مرات، ويجعل هذا الشهر المبارك بداية لفتح صفحة جديدة مع القرآن الكريم، تلاوة وحفظا، وتدبرا وعملا، ويظل على ذلك حتى يلقى الله، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(ص:29). وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: "فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام"، وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف".
ـ الفائز المقبول هو الذي جعل أيام رمضان فرصة للإكثار من البذل والعطاء، والإنفاق والصدقات على الفقراء والمساكين، فرمضان شهر الجود والإنفاق. قال ابن رجب: "قال الشافعي: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم".
ـ الفائز المقبول هو الذي يختار أصحابه من الأخيار والصالحين، فيزداد بصحبتهم ومجالستهم خيراً وطاعة، واجتهاداً وتنافساً في العبادات والخيرات..
ـ الفائز المقبول هو الذي لا يضيع وقته في غير طاعة الله، ويُكثر من ذكر الله تعالى على جميع أحواله، ويطول مكثه في المساجد انتظارًا لرحمة الله تعالى ودعوات الملائكة له، ويكثر من الاستغفار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ الفائز المقبول في رمضان هو الذي يحافظ على العبادات، ويجتهد في الطاعات والخيرات، ويحفظ جوارحه عن الذنوب والسيئات، ويداوم بعد رمضان على الطاعة والعبادة وفعل الخيرات، فمن علامات قبول الطاعة: الاستمرار والمداومة عليها بعدها، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإنْ قل، كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: الخاسر المحروم:
الخاسر المحروم هو الذي يدخل رمضان ثم يخرج منه مثلما كان قبل رمضان أو أسوأ، ولم يورث رمضان عنده توبة ولا استغفاراً، ولا إقلاعاً عن الذنوب والسيئات، على الرغم من زيادة دواعي الخير في هذا الشهر المبارك، وضعف دواعي الشرِّ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب جهنم، وسُلسِلت الشياطين) رواه البخاري.
ـ الخاسر المحروم في رمضان مَنْ يقضي وقته ويضيع ليله ونهاره فيما يغضب الله عز وحل، من لهو ولعب ومشاهدة لما حرم الله.
ـ الخاسر المحروم مَنْ تمر عليه أيام رمضان يوماً بعد يوم، ولم يُقْبِل ويجتهد مع القرآن الكريم تلاوة وعملا.
ـ الخاسر المحروم هو مَنْ حظه ِمْن صيامه الجوع والعطش، فقد صام عن الطعام والشراب، ولم يصم عن الحرام ومساوئ الأخلاق، ولَم يتجنَّبْ قولَ الزُّورِ والكَذِبِ والبُهْتانِ والغِيبةِ والسب والبذاء ونَحْوِها مِن الْمَناهي، فيَحصُلُ له الجوعُ والعطش، ولا يَحصُلُ له الثَّواب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوع، وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
ـ الخاسر المحروم هو من يتكاسل عن الصلاة، وعن القيام في صلاة التراويح، لأنه إذا لم يحافظ المسلم على صلاته ـ التي هي من أركان الإسلام في رمضان ـ، ولم يُقبل على صلاة التراويح بما فيها من فضل، فمتى يحافظ ويقبل؟!! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ) رواه مسلم. ويقول: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه) رواه البخاري.
ـ الخاسر المحروم هو الذي لا يسارع في البذل والعطاء والصدقات، فلم يعرف الفقير والمسكين له بابا، ولم يقتد بنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم وأجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان.
ـ الخاسر المحروم من يصوم نهاره، فإذا هو أفطر إذ بعينِه وسمعِه على ما حرَّم الله تُفْطِر.
ـ الخاسر المحروم هو الذي لم يُحْسِن اختيار أصحابه وجلسائه فكانوا من الذين لا يعرفون حق وحُرْمة هذا الشهر الكريم، فازداد بصحبتهم ومجالستهم خسرانا وحرمانا.
ـ الخاسر المحروم هو الغافل عن ذكر الله، الذي لا يعرف المساجد إلا لأداء الفرائض فقط، وربما قصَّر في المحافظة عليها.
ـ الخاسر والمحروم حقا هو مَنْ أدرك شهر رمضان ولم يتب فيه إلى الرحمن، وأصرَّ على المعاصي والسيئات، ولم يجتهد فيه في عبادة الله، ولم يحرص ويسارع فيه إلى العبادات والخيرات، وانتَهى الشَّهرُ ولم يُغفَرْ له. وأي خسارة وحِرْمان أعظم مِنْ أن يدخل المرء فيمن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رَغِمَ أنفُ (خاب وخسر) رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ له) رواه الترمذي وصححه الألباني.
قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "وكذا شهر رمضان شهر الله المُعَظَّم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}(البقرة:185)، فمَنْ وجد فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيمانا واحتسابا عَظَّمَه الله، ومَنْ لم يعظمه حقَّرَه الله تعالي".

إن بلوغ شهر رمضان مِنْ نعم الله تعالى العظيمة على عباده، ولا يدري الإنسان لعل هذا الشهر هو آخر رمضان في عمره إنْ أكمله، فكم مِنْ أناس صاموا معنا رمضان الماضي، وهم الآن في بطون الأرض مرتهنون بأعمالهم.. والصحابة رضوان الله عليهم ـ لِما علموه مِنْ فضل وعِظَم شهر رمضان ـ كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم هذا الشهر العظيم، ويدعون الله تعالى ستة أشهر بعده أن يتقبله الله منهم. وكان يحيى بن أبي كثير إذا حضر رمضان يدعو: "اللهم سلمني لرمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا ".. فشهر رمضان تاج على رأس الزمان، من رُحِم فيه فهو المرحوم، ومن حُرِم خيره فهو المحروم، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول عند انتهاء ورحيل شهر رمضان: "مَنْ هذا المقبول مِنَّا فنهنيه، ومَنْ هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول: هنيئاً لك، أيها المردود: جَبَرَ الله مصيبتك".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة