الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إخوانُكم خَوَلُكُم

إخوانُكم خَوَلُكُم

إخوانُكم خَوَلُكُم

في زمنٍ انتشر فيه الظلم والاستعباد للخدم، أكرم الله عز وجل الدنيا ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فواجه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما واجه من فساد الجاهلية وظلمها: سوء معاملة الخدم وإهدار حقوقهم وإنسانيتهم، فوضع للخدم من الحقوق، وشرع لهم من الآداب ما يتناسب مع إنسانيتهم والرحمة بهم. ولا شك أنه كلما سعى المخدوم في تحقيق هذه الآداب النبوية في معاملة الخادم نال مراده وطلبه منه على أكمل وجه، فراحة الخادم والمخدوم، وهداية البشرية جمعاء في اتباع أوامر وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(النور:54).

ومن المواقف النبوية التي أظهرت بوضوح اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بحقوق الخدم ورحمته بهم: موقفه مع أبي ذر رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه عن المعرور بن سويد قال: (لقيتُ أبا ذر بالربذة (موضع قرب المدينة)، وعليه حُلَّة (ثوب) وعلى غلامه حُلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببْتُ رجلاً، فعيرتُه بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيَّرْتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكُم (خدمكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه البخاري.
قال ابن حجر في "فتح الباري": " الخَوَل ـ بفتح المعجمة والواو ـ هم الخدم، سُمُّوا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي يصلحونها، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان.. وفي تقديم لفظ إخوانكم على خولكم إشارة إلى الاهتمام بالأخوة، وقوله: (تحت أيديكم) مجاز عن القدرة أو الملك".
ومن مظاهر الرحمة والشفقة بالخدم في هذا التوجيه النبوي الكريم لأبي ذر رضي الله عنه أمره بإطعامهم وإلباسهم من جنس ما يأكل ويلبس المخدوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس). وعن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة) رواه أحمد.
ومن جميل شفقته صلى الله عليه وسلم بالخدم في وصيته لأبي ذر رضي الله عنه تحريمه تكليفهم ما يشق عليهم فعله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم)، والأصل في النهي التحريم إن لم يصرفه صارف للكراهية، فإن حدث وكلفتموهم ما لا يستطيعون ويطيقون من العمل فقد وجبت عليكم إعانتهم بما يزيل عنهم المشقة (فإن كلفتموهم فأعينوهم) إما بالنفس أو بتوفير آلة لهم تيسر عليهم العمل، أو ندب أحد يساعدهم حتى ينتهي العمل الشاق، ودليل ذلك أن الأمر النبوي لم يحدد كيفية الإعانة، ومن ثم يدخل فيها كل وسيلة من شأنها رفع المشقة عنهم.
وإذا كانت هناك أمور في العلاقة بين الخادم والمخدوم لم يحددها أو يتطرق إليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه فتلك الأمور يجب معالجتها في نطاق قوله صلى الله عليه وسلم له: (إخوانكم خولكم).

وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر ظهر حرصه صلوات الله وسلامه عليه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لأبي ذر رضي الله عنه، رغم أن أبا ذر من أصحابه، وهو من الناحية الاجتماعية أرفع قدراً من خادمه، ومع ذلك لامه النبي صلى الله عليه وسلم لوماً شديداً، وأمره بالإحسان إلى خادمه، ونهاه عن إيذائه، بل وأخبره محذراً أن فيه صفة من صفات الجاهلية: (أعيرتَه بأمه)، وهذا ليس بالأمر اليسير عند صحابي جليل مثل أبي ذرر ضي الله عنه. ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم رفيقا في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ويتمثل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر)، فناداه بأحب الأسماء إليه وهي كُنْيَتُه، ولم يصفه صلى الله عليه وسلم بالجاهلية المطلقة لوقوعه في أمر من أمور الجاهلية، ولكنه أثبت له فقط أن فيه جاهلية، أي خصلة من خصال الجاهلية، وهي التعيير بالأُم، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في نهيه لأبي ذر على كلمات معدودات، وهذا من الفقه والرفق النبوي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كذلك ظهرت أمانة أبي ذر رضي الله عنه في نقل العلم وأحاديث الله عليه وسلم، ولو كان في ذكره شيء يبين خطأً مِن أخطائه، من حيث الفعل الذي فعله، واللوم الذي وُجّه إليه من النبي صلى الله عليه وسلم على خطئه، فلم يكتم شيئاً من ذلك، وهذا يدل على عِظم أمانته وصدقه..وكذلك ظهرت علو همة أبي ذر رضي الله عنه في اتباع أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه بالأتم والأكمل منه، فلم يُلْبِس الخادم شيئاً مشابهاً لما يلبسه، بل ألبسه من جنس ما يلبس، واستمرار معاملته للخادم على نفس النهج الطيب منذ أن نصحه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن سأله التابعي المعرور بن سويد، وهذا يدل على حُسْن طاعته للنبي صلى الله عليه وسلم ليس في حياته فقط ولكن بعد موته أيضاً، وإذا كان هذا سلوك أبي ذر رضي الله عنه مع خادمه في الملبس، الذي يفضّل البعض أن يتميز به عن خادمه، فكيف كان مسلكه رضي الله عنه في مأكله ومشربه ومعاملته مع الخادم؟!.

إذا تتبعنا التوجيهات والتوصيات التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم بالخدم، سنعرف مقدار الاهتمام الذي حازته هذه الفئة الضعيفة من المجتمع في وصاياه.. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالعفو عن خطئهم. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة) رواه أبو داود .
كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الخادم. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعةَ نيل فيها عطاء فَيستجيب لكم) رواه أبو داود .
وألزم النبي صلى الله عليه وسلم المخدوم أن يُوَفِّيَ الخادم أجره المكافئ لجُهده دون ظلم أو مماطلة. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عَرَقُه) رواه ابن ماجه . ولا شك أن الخادم أجير عند من يخدمه.
ولم يؤْثَر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب خادماً أبداً. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خادما ولا امرأة قَط) رواه مسلم. وقد شهد أنس رضي الله عنه الذي خدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم سنوات عديدة بأنه لم يتعرض لأي أذى مادي أو معنوي خلال تلك الفترة. عن أنس رضي الله عنه قال: (خدمتُ رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما سبَّني سبة قط، ولا قال لي أُف قط، ولا قال لي لشيء فعلتُه: لم فعلتَه، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَه) رواه مسلم.
ومع أمره صلى الله عليه وسلم للمخدوم بإطعام الخادم مما يأكل، ولبسه مما يلبس، وعدم تكلفيه بما لا يطيق، والتخفيف عنه، والعفو عن خطئه إذا أخطأ، والمسارعة في إعطائه أجره وعدم الإنقاص منه.. حث النبي صلى الله عليه وسلم على شكره لما يقوم به من عمل، فالإنسان بطبعه ـ خادماً كان أو مخدوماً ـ يحب من يشكره عل عمله، ثم إنْ شُكْرنَا لِمَنْ أسْدى إلينا معروفاً أو صنيعاً من شكرنا لله عز وجل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَشْكرُ اللهَ مَنْ لا يشكرُ الناس) رواه أبو داود .
وامتدت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالخدم لتشمل غير المؤمنين به، كما فعل مع الغلام اليهودي الذي كان يعمل عنده خادماً، فقد مرض الغلام مرضاً شديداً، فزاره النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام فأسلم. عن أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسْلِم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.

لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم للخدم من الحقوق وشرع لهم من الآداب ما يتناسب مع إنسانيتهم والرحمة بهم، وقد سبق صلى الله عليه وسلم كل الأنظمة والقوانين والمواثيق الدولية المعاصرة في الرحمة بالخدم والشفقة عليهم، بغض النظر عن ديانتهم وجنسياتهم، وصدق الله تعالى الذي قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة