الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تباغضوا

لا تباغضوا

 لا تباغضوا

الحمد لله الذي ألف بين قلوب أوليائه فصاروا بنعمته إخوانا، والصلاة والسلام على البشير النذير الذي ألف الله به بين القلوب، وضمن لمن اتبعه وأطاعه مغفرة الذنوب، أما بعد:
فإن المسلمين إخوة، ربط الله تعالى بين قلوبهم برباط التوحيد الذي سماهم الله تعالى بها مسلمين.

والإخوة يتحابون ولا يتباغضون، فقد نهتهم عقيدتهم عن التباغض على وفق ما تمليه الأهواء والأعداء، والنفوس الشريرة الأمارة بالسوء، أما إذا كان يبغض للهِ ومن أجْل الله، فهو أمر مطلوب، وبُغْض محبوب؛ فإن المسلم لا ينال ولاية الله إلا بأن يحب في الله، ويبغض في الله، وويوالي في الله، ويُعادي في الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا)؛ أي: لا تفعلوا أسبابَ البغض التي تجعل بعضكم يَحقِد على بعض ويبغض بعضكم بعضًا، فالتحابُّ يَسعَد به أقوام، والتباغض يشقى به آخرون.

‌‌البغض بين المدح والذم:

قال ابن رجب رحمه الله: (قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ولا تباغضوا" نهى المسلمين عن التّباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النّفوس، فإنّ المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابّون بينهم ولا يتباغضون.

وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (والّذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه، تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم)(أخرجه مسلم).

وقد حرّم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة:91) وامتنّ على عباده بالتّأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً}(آل عمران:103) وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال:62- 63). ولهذا المعنى حرّم المشي بالنّميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء.

وأمّا البغض في الله فهو من أوثق عرى الإيمان وليس داخلا في النّهي، ولو ظهر لرجل من أخيه شرّ فأبغضه عليه - وكان الرّجل معذورا فيه في نفس الأمر- أثيب المبغض له، وإن عذر أخوه كما قال عمر: "إنّا كنّا نعرفكم، إذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا وإذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد انطلق به، وانقطع الوحي، وإنّما نعرفكم بما نخبركم. ألا من أظهر منكم لنا خيرا ظننّا به خيرا وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم شرّا ظننّا به شرّا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربّكم تعالى".

وقال الرّبيع بن خثيم: لو رأيت رجلا يظهر خيرا ويسرّ شرّا أحببته عليه آجرك الله على حبّك الخير، ولو رأيت رجلا يظهر شرّا ويسرّ خيرا بغضته عليه آجرك الله على بغضك الشّرّ.
ولمّا كثر اختلاف النّاس في مسائل الدّين وكثر تفرّقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعُنُهم، وكلّ منهم يظهر أنّه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا، بل يكون متّبعا لهواه مقصّرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإنّ كثيرا من البغض كذلك إنّما يقع لمخالفة متبوع يظنّ أنّه لا يقول إلّا الحقّ وهذا الظّنّ خطأ قطعا، وإن أريد أنّه لا يقول إلّا الحقّ فيما خولف فيه. فهذا الظّنّ قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرّد الهوى والألفة أو العادة، وكلّ هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرّز في هذا غاية التّحرّز). انتهى.

الكفار يبغضون المؤمنين:

يقول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}(آل عمران118-119).
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ}: (أي قد لاح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل).

النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التباغض:
نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التباغض بين المؤمنين في العديد من الأحاديث ومن ذلك:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (إيّاكم والظّنّ؛ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّام).

التنافس المذموم على الدنيا يؤدي إلى التباغض:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (إذا فتحت عليكم فارس والرّوم، أيّ قوم أنتم؟ قال عبد الرّحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أو غير ذلك، تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون ثمّ تتباغضون، أو نحو ذلك).

وعن أبي سنان الدّؤليّ: أنّه دخل على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ـ وعنده نفر من المهاجرين الأوّلين ـ فأرسل عمر إلى سفط "ما يوضع فيه الطيب" أتي به من قلعة من العراق فكان فيه خاتم، فأخذه بعض بنيه فأدخله في فيه، فانتزعه عمر منه، ثمّ بكى عمر، فقال له من عنده: لم تبكي وقد فتح الله لك وأظهرك على عدوّك وأقرّ عينك؟ فقال عمر: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (لا تفتح الدّنيا على أحد إلّا ألقى الله- عزّ وجلّ- بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)، وأنا أشفق من ذلك".

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (سيصيب أمّتي داء الأمم، فقالوا: يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتّكاثر والتّناجش في الدّنيا والتّباغض والتّحاسد حتّى يكون البغي).

وعن الزّبير بن العوّام- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (دبّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشّعر، ولكن تحلق الدّين، والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السّلام بينكم).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة