الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دفع التعارض بين المحاسبة على حديث النفس والعفو عنه

دفع التعارض بين المحاسبة على حديث النفس والعفو عنه

 دفع التعارض بين المحاسبة على حديث النفس والعفو عنه

كان من مهام رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرسله بها ربه سبحانه؛ أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وذلك أن بعض الناس زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يهتدون لمعرفة معاني بعض ما أنزل الله تعالى من قرآن، وربما بعضهم إلى توضيح إشكال أو دفع تعارض، وكانوا يأتون يسألون رسول الله عنه ويبين لهم ذلك صلى الله عليه وسلم.

ثم إن علماء الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تصدوا لبيان معاني بعض الآيات والأحاديث التي يُوهم ظاهرها أن ثمت تعارضًا بينها، فدفعوا ذلك التعارض الظاهري بالتوفيق والجمع بينها، سواء أكان التعارض بين آية وآية، أم بين آية وحديث مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دفعهم التعارض بين قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم» رواه البخاري. فظاهر الآية السابقة يدل على أننا محاسبون بما أضمرته قلوبنا وذلك تكليف بما لا يُطاق، ونصُّ الحديث يدل على أن الله تعالى قد تجاوز عنا ذلك، وأننا لا نحاسب إلا بالعمل أو الكلام، وإذا كان هذا الحديث صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يعارض آية في كتاب الله تعالى لأن الحق لا يضرب بعضه بعضًا، وإنما يصدق بعضه بعضًا، ولذا عمل المفسرون على الجمع بين هذه الآية وهذا الحديث، ودفع التعارض الظاهري بينهما وذلك من عدة وجوه منها ما يأتي:
أولًا: قالوا إن الله تعالى يؤاخذ العبد على ما أخفاه وما أبداه من العمل، ولكن ما أخفاه إنما يجازيه عليه في الدنيا بالهم والغم، والابتلاءات والمصائب ونحو ذلك، وفي الآخرة لا يحاسبه عليه ولا يسأله عنه، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: «هذه مُعَاتَبَةُ اللهِ لعَبْدِهِ بما يُصِيبُهُ من الحُمَّى و النَّكْبَةِ ، حتى البِضَاعَةُ يَضَعُها في كُمِّ قميصِه فيَفْقِدُها ، فيَفْزَعُ لها ، حتى إنَّ العبدَ لَيَخْرُجُ من ذنوبِه كما يَخْرُجُ التِّبْرُ الأحمرُ من الكِيرِ» رواه الترمذي. قال الضحاك: "كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بمعصية، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخافُ ويحزن ويهتم".
ثانيًا: قالوا إن المراد بالمحاسبة في الآية الإخبار والتعريف، وليس المراد بها المؤاخذة، بدليل أنه قال يحاسبكم به ولم يقل يؤاخذكم به، ومعنى الإخبار أي إنه تعالى عالم بما يكون من خلقه وإن أضمروه في نفوسهم، وسيخبرهم به يوم القيامة. قال ابن عباس: "إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ويعفو عنه، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب"، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» رواه البخاري.
ثالثًا: وقيل إن هذه الآية متصلة بالآية التي قبلها التي تتحدث عن الشهادة، ويكون معنى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي إن تخفوا الشهادة يحاسبكم الله على ذلك.
رابعًا: وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وذلك أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فيه تكليف بما يكون من العبد من الخطرات التي لا يمكن دفعها، والآية الثانية ناسخة لذلك، وهي تدل على أن الله لا يكلف العبد إلا ما يطيق، وأما ما لا طاقة له على دفعه فهو غير محاسب به، ويدل على ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} "اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم، ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] " قال: نعم " {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} [البقرة: 286] " قال: نعم " {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286] " قال: نعم " {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286] " قال: نعم ".
فهذا الحديث فيه نص على أن آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} منسوخة بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وهذا القول أقوى ما يدفع به التعارض بينها وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم» رواه البخاري.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة