الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قل متاع الدنيا قليل

قل متاع الدنيا قليل

قل متاع الدنيا قليل
جاء وَصْف (الدنيا) في القرآن الكريم بأنها {متاع} قال سبحانه: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (الرعد:26) ووَصفَ القرآن {المتاع} بأنه {متاع الغرور} (آل عمران:185) أي: تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. ووصف في موضوع آخر بأنه {قليل}، قال سبحانه: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء:77).
و(المتاع) كلُّ ما يتمتع به الإنسان وينتفع به، كالمركب والمسكن والمأكل والمشرب...ثم يزول ولا يبقى ملكه، كذا قال أكثر المفسرين. وقال الحسن البصري: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ومن الآيات التي تزهد في الدنيا غير ما تقدم قوله عز وجل: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (الحديد:20) وقوله سبحانه: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} (77) وبيَّن القرآن الكريم أن الناس يؤثرون الحياة الدنيا، مع علمهم بأنها دار فانية لا قرار فيها ولا استقرار، ولا أمان فيها ولا اطمئنان، قال عز وجل: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (الأعلى: 16-17).
ووَصْفُ القرآن الكريم (متاع الدنيا) بأنه {قليل} يحمل دلالة كبيرة، وهي أن الدينا بما فيها من متاع على كثرته، إنما هو في ميزان الله لا يعدل شيئاً، ومن ثم فإن على الإنسان أن لا يغتر بهذا المتاع؛ لأنه متاع لا دوام له ولا بقاء، ومنفعته محدودة معدودة، وقيمته زائلة معدومة؛ لذلك جاء في الحديث الذي رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بِمَ ترجع) وأشار بالسبابة، والتشبيه في الحديث تشبيه بليغ؛ إذ الذي يغمس أصبعه في البحر ثم يرفعه ماذا يعلق بأصبعه من الماء؟، بالتأكيد لا يعلق إلا أثر يسير لا قيمة له ولا وزن، ولا يسمن ولا يغني من جوع، وهذا مثل حال الذي ينغمس في ملذات هذه الدينا ويرتع في زخرفها لا يخرج في نهاية المطاف منها بشيء.
وفي حديث آخر يصب في المعنى نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، فهذا الحديث أيضاً يقرر المعنى الذي قررته الآيات المتقدمة من أن الدنيا ليست دار قرار، بل هي محطة للآخرة، تشبه المحطة التي ينزلها المسافر ليستريح ويتزود منها بما يحتاج إليه لبلوغ مقصده الذي يقصده، وغايته التي يبتغيها.
وقد قال بعض الحكماء مبيِّنًا قيمة الدنيا وحقيقتها: "من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا؛ لأنَّ الله تعالى سمَّى الدنيا متاعاً قليلاً، فقال: {قل متاع الدنيا قليل} وسمَّى العلم والقرآن {خيرا كثيرا} قال تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} (البقرة:269). قيل: إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي مَن جَمَعَ علم كتب الأولين.
وجاء في الحديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله) أي: لا تتعلق بمتاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجِلْف -بكسر فسكون: الخبز وحده لا أدم معه- الخبز والماء) رواه الترمذي. وسئل سهل بن عبد الله: بِمَ يسهل على العبد ترك الدنيا وكلِّ الشهوات؟ قال: بتشاغله بما أُمِرَ به.
ويسمى متاع الدنيا (عرضاً) لأنه عارض زائل غير ثابت، قال أبو عبيدة: يقال: جميع متاع الحياة الدنيا عَرَض -بفتح الراء- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر) رواه الطبراني والبيهقي، وغيرهما. والعَرْض -بسكون الراء- ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عَرْضٍ عَرَضٌ، وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً. وفي "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس) متفق عليه.
وما سقناه من آيات وأحاديث تُزَهِّد في الدنيا وتجعل عين العبد صَوْب الآخرة لا يعني أن يدع العبد حظَّه من الدنيا ويزهد فيها كلَّ الزهد، فهذا ليس من شرعة الإسلام ولا من سننه في شيء، بل على العبد أن يأخذ حظه من الدنيا من غير أن ينسى الآخرة، والقول الفصل في هذا قوله عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص:77) وقد بيَّن الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما هذا المعنى بقوله: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) فعلى العبد أن يأخذ من دنياه وَفْق ما شرعه الله ويجتهد فيها بعمل كل ما يقربه من ربه سبحانه ويبلغه آخرته بسلام؛ إذ الآخرة هي الغاية والمقصد وهي خاتمة المطاف والتطواف، والدنيا مجرد طريق إليها، وقد قال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة:105).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة