الإيمان بالله تعالى، ومُلائكتِه، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخرِ، والقدَرِ خيرِه وشرِّه، هي أركان الإيمان السِتة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور الذي بيَّن فيه معنى الإيمانِ والإسلام والإحسان، فقال صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّه) رواه مسلم. وحياة البرزخ التي تبدأ بالموت وفراق الروح للبدن ـ على المسلم الإيمان والتسليم بما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم عنها، وما يحدث فيها مِنْ نعيم أو عذاب، وهذا مِنْ مُقْتَضَى الشهادة بأنه رسول الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4:3). قال السعدي: "{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه مَِن الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودل هذا على أن السُنة وحْي مِنَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(النساء:113) لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يُوحَى"..
ومما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم مِنَ الأمور الغيبية التي تحدث للإنسان بعد الموت: أنه إذا وُضِعت الجِنازة ثم احتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت ـ الجنَازة ـ مِنْ أهل الإيمان والخير والصلاح قالت: "قَدِّموني، قَدِّموني"، وذلك مِن فَرحتِها بما رأَتْ مِن المُبشِّرات ومِنَ النعيم الذي ينتظرها، وإنْ كانتْ غيرَ صالحةٍ دعَتْ على نفْسِها بالوَيل وقالت: "يا وَيْلَها! أين يَذهَبون بها؟!" وذلك مِن هَوْلِ ما رأَتْ مِنَ العذاب الذي يَنتظرها، ويسمع صوتها كل المخلوقات مِنْ حيوان وجَماد إلا الإنسان، ولو سمعها لغُشي عليه أو هلك من ذلك..
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أَعْنَاقِهِمْ ، فإنْ كَانَتْ صَالِحة قالت: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي ، وإن كانتْ غير صالِحة قالت: يا ويْلَها أَيْنَ يَذْهَبون بها؟ يَسْمَع صَوْتها كُلُّ شيءٍ إلَّا الإنْسَان، ولو سَمِعَها الإنْسَانُ لَصَعِق ) رواه البخاري. وفي رواية: (وإنْ كانت غَيْر صالِحة قالت: يا وَيْلَها، أين تَذهَبون بها؟).
- قال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (إِذَا وضعت الْجِنَازة) وفِي رواية: (إِذا وُضِع الْمَيِّتُ عَلى السَّرِير) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بالجِنازة الْمَيِّت، وقد تقدم أن هذا اللفظ يُطلق على الميت وعلى السرير الذي يُحْمَل عليه أيضا.. قوله: (إذا وضعت الجنازة) يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت وبوضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أوْلى لقوله بعد ذلك: (فإن كانت صالحة قالت) فإن المراد به الميت، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة بلفظ: (إذا وضع المؤمن على سريره يقول: قدموني) الحديث، وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق".
ـ وقال العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": " قوله: (إذا وُضعت الجنازة) أي: الميت على النعش، وقد ذكرنا أن هذا اللفظ يطلق على الميت وعلى السرير الذي يحمل عليه الميت، ويحتمل أن يراد بها النعش.. قوله: (يا ويلها) معناه: يا حُزْنِي احضر فهذا أوانك، وكان القياس أن يقال: يا ويلي، لكنه أضيف إلى الغائب حملا على المعنى، كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها وجعلها كأنها غيره، وكَرِه أن يضيف الويل إلى نفسه. قوله: (لصعق) الصعق: أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربما مات منه، وقال ابن بطال: (قدموني) أي: إلى العمل الصالح الذي عملته، يعني إلى ثوابه. وفي لفظ: (يسمع) دلالة أن القول ههنا حقيقة لا مجاز، وأنه تعالى يحدث النطق في الميت إذا شاء. وقال: (يا ويلها) لأنها تعلم أنها لم تُقدم خيرا، وأنها تقدم على ما يسوؤها فتكره القدوم عليها".
ـ وقال السيوطي في "حاشية السندي على سنن النسائي": "(ولو سمعها الإنسان لصعق) أي لغشي عليه مِنْ شدة ما يسمعه وهو راجع إلى الدعاء بالويل أي يصيح بصوت مُنْكَر لو سمعه الإنسان لغشي عليه. قال ابن بُزَيْزة: هو مختص بالميت الذي هو غير صالح، وأما الصالح فمن شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق من سماع كلامه. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يحصل الصعق من سماع كلام الصالح لكونه غير مألوف".
ـ وقال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(فإنْ كانت صالحة قالت): أي: بلسان الحال أو بلسان المقال. (قدموني) أي: أسرعوا بي إلى منزلي لما يرى في الجنة العالية من المراتب الغالية.. قال الطيبي: أي: يا ويلي، وهلاكي احضر، فهذا أوانك، فعدل عن حكاية قول الجنازة إلى ضمير الغائب حملا على المعنى كراهية إضافة الويل إلى نفسه.. (لصعق) أي: لمات أو غشي عليه، ففيه بيان حِكمة عدم سماع الإنسان مِنْ أنه يختل نظام العالم، ويكون الإيمان شهوديا لا غيبيا".
ـ وقال القسطلاني في "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري": "(فإنْ كانت صالحة قالت) قولاً حقيقيًّا: (قدّموني) لثواب العمل الصالح الذي عَمِلْتُه". وفي "منحة الباري بشرح صحيح البخاري": "(إذا وُضِعت الجنازة) أي: الميت على النعش".
ـ وقال ابن رسلان المقدسي في "شرح سنن أبي داود": "هذا الحديث يدل على أن الميت يتكلم على الجنازة. وفي قوله: (يسمع صوتها كل شيء) دليل على أن قوله: (قدموني) و(يا ويلها أين يذهبون بها) حقيقة لا مجاز، وأن الله يحدث النطق في الميت إذا شاء، لكن إنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجسد لا يتكلم بعد خروج الروح منه إلا أن يرده الله فيه، وإنما يسمع الروح مَنْ هو مثله ومجانسه، وهم الملائكة والجن".
ـ وقال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "(باب حمل الرجال الجنازة) هي بالفتح للميت وبالكسر للنعش ويقال بالعكس. قوله (إذا وُضِعَت الجنازة) أي الميت على النعش ويحتمل أن يراد بها إذا وضعت الجنازة أي النعش على الأعناق.. و(الصعق) أن يغشي على الإنسان من صوت شديد يسمعه وربما مات منه. قالوا لا يحملها إلا الرجال وإن كانت الميتة امرأة لأنهم أقوى لذلك والنساء ضعيفات. قال ابن بطال: (قدموني) أي إلى العمل الصالح الذي عملته يعني إلى ثوابه، (يسمع صوتَها) دلالة على أن القول ههنا حقيقة لا مجاز، وأنه تعالى يحدث النطق في الميت إذا شاء. (وقالت: يا ويلها) لأنها تعلم أنها لم تقدم خيراً وأنها تقدم على ما يسوؤها فتكره القدوم عليها ".
ـ وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "(قالت: قدموني، قدموني) تقول ذلك بصوت مسموع يسمعه كل شيء إلا الإنسان لا يسمعه، نعمة من الله عز وجل، لأننا لو سمعنا ما يقوله الأموات على نعوشهم لانزعجنا، لكن الله أخفاه عنا، لكن تسمعه الدواب، يسمعه كل شيء تقول: (قدموني، قدموني) إلى أي شيء يقدمونها؟! لِمَا أعده الله لها مِنَ النعيم الذي بُشِّرَت به عند الاحتضار، وإن لم تكن صالحة قالت: (يا ويلها أين تذهبون بها) نعوذ بالله، تدعو بالويل لأنها ستقدم ـ نسأل الله العافية ـ إلى عذاب في القبر، يضيق عليها القبر حتى تختلف الأضلاع ويفتح لها باب إلى النار، نسأل الله العافية، ولا أحد مِنَ الأحياء البَشر يعلم ويشعر بذلك، ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أن أخفاه علينا، ولو علمنا بذلك ما تدافنا أبداً، لكن الله يخفيه".
ـ ومن فوائد هذا الحديث النبوي: أن الله تعالى يُطلع عباده على منازلهم وما أعده لهم في حال احتضارهم وبعد موتهم، وأنَّ المَيت الصَّالح يرى المُبشِّرات قبْلَ دفْنِه فيشتاق لما أُعدَّ له مِنْ كرامة، فيقول: (قدموني، قدموني)، ويجزع الكافر والفاسق لما يترقبه مِن أليم العذاب ويقول: (يا ويْلَها أَيْن يَذْهَبون بهَا؟)، وأن بعض الأصوات يسمعها غير الإنسان، ولا يستطيع الإنسان سماعها، وهذا من المعجزات، وقد أثبت العلم الحديث ذلك، والإخبار بهذا من المعجزات النبوية.. وأنه مِنَ السُنة حَمْل الجنازة على أعناق الرجال، وأن روح الميت تتكلم بعد مفارقته لجسده، وقبل دخوله في قبره، والله أعلم بكيفيته..
الميت ينتقل بموته إلى عالم "البرزخ" وهو عالَم آخر غير الذي قضى عمره وحياته فيه، وهو يبدأ مِن وقت الموت إلى يوم القيامة، ومَنْ مات دخله، فالبرزخ فترة زمنية تمر على كل ميت، مسلم أو كافر، صالح أو طالح، والحياة في البرزخ مغايرة للحياة في الدنيا، وهذا العالَم الغيبي ليس لأحدٍ أن يُثبت فيه شيئاً أو ينفيه إلا بدليل مِنَ القرآن الكريم والسنَّة النبوية الصحيحة.. وقد جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة تثبت تكلم الميت وهو محمول على الأكتاف لدفنه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَة، فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أَعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَة قالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي) أي: أسرعوا، أسرعوا، وذلك مِنْ فرحتها بما رأت مِنَ المبشرات، ولو لم يكن بين يدي المؤمن الا هذه الفرحة التي يفرحها بعد موته ببشريات الله عز وجل له، لحرص كل الحرص على أن يعيش حياته محافظاً على الصلوات، منشغلا بالطاعات، مبتعداً عن المعاصي والمحرمات، حتى يكرمه الله عز وجل بهذه الفرحة، فكيف وما بعد هذه الفرحة مِنْ أنواعٍ مِنَ الفرح الكثيرة والمتعددة، وإن كانت الجنازة غير صالحة قالت: (يا ويْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُون بهَا؟) اتركوها ولا تدفنوها، وذلك مِنْ هول ما رأت مِنَ العذاب الذي ينتظرها.. قال ابن القيم: "فمَنْ كان مشغولاً بالله وبِذِكْرِه ومحبته في حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومَنْ كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته، فيَعْسُر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية مِنْ ربه، ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يُلزم قلبه ولسانه ذِكْرَ الله حيثما كان لأَجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد. فنسأَل اللهَ أنْ يعيننا على ذِكْرِه وشُكره وحُسْن عبادته"..
المقالات

