حتى في زمن تسارع الصور، وحضور الشاشات، وضجيجها، ما تزال الكلمة تحتفظ بمكانتها العميقة، لا بوصفها أداة تواصل فحسب، بل باعتبارها قوة فاعلة في تشكيل الوعي، وبناء المواقف، وصناعة المصائر الفردية والجماعية.
الكلمة ليست صوتًا عابرًا في هواءٍ متحرك، وإنما هي أثرٌ يتغلغل في النفوس، ويترك ندوبًا، أو بصماتٍ من نور، بحسب ما يُراد لها أن تكون.
لقد أدرك الإنسان منذ بداياته الأولى أن للكلمة سلطانًا يتجاوز حدود النطق، فبها عُقِدت العهود، وبها اشتعلت الحروب، أو وُضِعت أوزارها، وبها نهضت أمم وسقطت أخرى.
وما الخطاب العام، ولا المقالة، ولا الخُطبة، إلا شواهد على أن الكلمة إذا خرجت من فم صاحبها لم تعد ملكه، بل صارت كيانًا مستقلًا، يعمل في عقول السامعين وقلوبهم، ويعيد ترتيب أفكارهم، ومشاعرهم دون استئذان.
والكلمة، في حقيقتها، سلاحٌ ذو حدين؛ قد تكون باب نجاة، وقد تتحول إلى أداة هدم، كلمة صادقة قد تنتشل إنسانًا من اليأس، وتعيد إليه الثقة بنفسه وبالحياة، وكلمة طائشة قد تزرع الشك في قلب مطمئن، أو تشعل فتنة لا تُطفأ بسهولة، من هنا تنبع خطورة اللسان، وتتعاظم مسؤوليته، إذ ليس كل كلمة ينبغي أن تُقال، ولا كل ما يُعرف يصلح لأن يُذاع.
ولذلك يؤكد الإسلام أن الكلمة مسئولية، وأن الإنسان محاسب بمقالته، وأن عليه أن يزن كلمته قبل إطلاقها، أولم يخبرنا القرآن أننا محاسبون على ألفاظنا: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(ق:18)، بل إن السنة تبين بصريح العبارة أن الكلمة قد تردي صاحبها في النار عياذاً بالله (إنَّ الرجلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا)"الترمذي"، وفي السنة أيضاً أن كثيراً من الناس يسحبون ويكبون في النار بحصائد ألسنتهم، ونتيجة مقالتهم: (وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم)"الترمذي".
إن انتقاء الكلمات ليس ترفًا لغويًا، ولا تكلّفًا بلاغيًا، بل هو تمسك بشريعة الله التي أنزلت؛ لتحكم حياة الناس، وهو كذلك ضربٌ من الوعي الأخلاقي، فكما يحرص الإنسان على اختيار طعامه وشرابه اتقاءً للضرر، يجدر به أن يحرص على اختيار ألفاظه ومعانيه، لأن الكلمات – وإن بدت صغيرة – تصنع أفعالًا كبيرة، وتؤسس لمواقف طويلة الأمد، وقد تصدر الكلمة من المتكلم هينةً في نظره، لكنها تقع في نفس المتلقي وقوع الصاعقة، فيحملها معه عمرًا كاملًا.
الصمت منجاة:
مدح عقلاء البشر الصمت، ودللوا على أنه ناتج عن الحكمة والعقل، وبينوا أن الصمت ليس عجزًا، كما يتوهم البعض.
يقول ابن أبي سلمى:
| وكائن ترى من صامت لك معجب | زيادته أو نقصه في التكلم | |
| لسان الفتى نصف ونصف فؤاده | فلم يبق إلا صورة اللحم والدم | |
إننا من الصمت نتعلّم الإصغاء، ونُنمّي الفهم، ونمنح العقل فرصة لترتيب الأفكار قبل أن تُسكب في قالب اللغة، ولعلّ أفصح الناس هم أولئك الذين تمرّسوا بالصمت قبل الكلام، فحين تكلّموا، قالوا ما يُغني ويُقنع، لا ما يملأ الفراغ.
وقد قيل قديمًا إن البلاغة هي الإيجاز، لا الإطناب، فالإكثار من الكلام لا يدل بالضرورة على عمق الفكرة، بل قد يكون ستارًا يُخفي ضحالة المعنى، والكلمة الموجزة، إذا كانت في موضعها، أقدر على التأثير من خطبٍ مطوّلة لا تمسك بخيط واضح؛ ومن هنا كان الاقتصاد في الكلام فضيلة، لا سيما في زمن أُغرِق فيه الفضاء العام باللغو، والتكرار، والابتذال.
من آداب الكلمة:
وإذا كان للكلام قوة، فإن له كذلك آدابًا تضبط مساره، وتحفظه من الانزلاق إلى الأذى، فمن هذه الآداب:
- أن لا يخوض المرء فيما لا يعنيه، فالتطفل اللفظي قد يجرّ على صاحبه متاعب لا قِبل له بها، ومنها أن في مكانه وزمانه، بأن تراعي المناسبة للكلام،
- ومنها أيضًا أن لا يتحدث الإنسان بلسان غيره، ولا ينقل كلامًا لم يتحقق من صدقه، لأن الكلمة المنقولة إذا شُوّهت أو أُسيء فهمها قد تظلم الأبرياء، وتنسج قصصًا لا أصل لها.
وفي هذا كله تتجلى المسؤولية الأخلاقية للمتكلم، فالإنسان حرّ في أن يتكلم أو يصمت، ولا أحد يجبره على أن يقول ما لا يريد، غير أن هذه الحرية مقرونة بالمحاسبة، فالكلمة التي تُقال تُسجَّل، لا في الذاكرة العامة فحسب، بل في ميزان القيم أيضًا.
إن الثقافة الحقيقية لا تُقاس بكثرة الكلام، بل بجودته، ولا تُعرف بارتفاع الصوت، بل بعمق المعنى، والمجتمعات التي تعي خطورة الكلمة تحرص على ترشيد خطابها، وتُعلي من شأن القول المسؤول، لأن البناء الحضاري يبدأ من اللغة.
ختامًا تظل الكلمة صديقًا وفيًّا لمن أحسن صحبتها، وعدوًا خطيرًا لمن استهان بها، بها ينجو إنسان، بها يهلك آخر، وبالكلمة يصلح المصلح، وبالكلمة يفسد الفاسد، بها يرتقي الإنسان، وبها يكون سقوط الساقطين، ومن هنا كانت العناية بالكلمة عناية بالإنسان نفسه، وبمستقبل العلاقة بينه وبين غيره، وقبل ذلك بالكلمة نمجد الله، ونذكره، وبها يعصي العبد ربه، وتكتب عليه الأوزار.
في عالم اليوم ما زال للكلمة حضورها – رغم كل شيء – ومازال الناس يُصغون للكلمة الصادقة حين تُقال بوعيٍ ومسؤولية.
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

