الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أربي أولادي في مجتمع غربي لنحفظ أنفسنا من الضياع؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أكتب إليكم وقلبي مثقل بالهموم، راجية منكم توجيهًا يهديني ويثبتني على الطريق.

أنا امرأة عربية، متزوجة من رجل مسلم غير عربي، ولدينا طفلان: ابن في التاسعة، وبنت في السابعة، علّمناهما الصلاة والصيام منذ سن السادسة، غير أنّ تعليم اللغة العربية لم يتسنَّ لنا منذ الصغر؛ لأن زوجي يتحدث الفرنسية، ونحن نعيش دائمًا في بلدان غربية بسبب طبيعة عمله، ونأمل أن ننتقل إلى دولة مسلمة قريبًا.

لكن للأسف زوجي يتهاون في موضوع الانتقال إلى بلد إسلامي، إذ إننا نشأنا في مجتمعين مختلفين؛ أنا تربيت على الدين منذ الصغر في مجتمع مسلم، أمّا هو فلم يحظَ بذلك؛ ولذلك لا يرى المكان مشكلة، بينما أراه أنا مشكلة جمّة ونحن محاطون بالفتن.

نحن نقوم يوميًا بإعطائهم دروسًا في الدين، ويأخذون دروس حفظ القرآن عن بُعد، ونذهب إلى المسجد لصلاة الفجر والمغرب والعشاء فقط؛ بسبب بُعد المسجد وظروف العمل والدراسة.

أشعر أن أولادي يتكاسلون أحيانًا عن الصلاة، وهذا يزيد شعوري بالضغط والحزن، حتى أصبحت عصبية، أصرخ كثيرًا، وأبكي حزنًا على حالنا وتقصيرنا، وقد صار ابني كثير التذمّر مما يدور حولنا، ويرجوني أن نذهب إلى بلد مسلم ليتعلم دينه في بيئة صالحة بعيدًا عن العري والجهل.

أنا أرتدي اللباس الشرعي، وأرغب في ارتداء النقاب، لكن زوجي يرفض بحجة أنه سيعطل حياتنا اليومية، وأشعر بصراع داخلي بين رغبتي في التقرب إلى الله وبين طاعة زوجي.

زوجي رجل طيب وحنون وكريم، لكنه في بعض الأحيان غليظ معي، وأشعر ببرود في علاقتنا، فهو لا يقبل النقاش كثيرًا، ولم يفتح قلبه ليحدثني عن أفكاره ومشاريعه.

أغلب شجاراتنا تكون حول غلظته معي، أو حول تقييده نفسه بعلم محدود يعتمد على قراءاته القديمة لكتب الأئمة الأربعة والأحاديث، ويرفض الاستماع لأي شيخ حديث؛ بحجة أن كلًّا يفتي حسب هواه.

أصبحت أكره الخروج من المنزل إلَّا عند الضرورة، وانقطعت عن المجتمع خوفًا على نفسي وعائلتي، أشعر أننا نقصّر في ديننا، وهذا زاد من اكتئابي وحالتي النفسية.

ليس لدينا أهل أو أصدقاء هنا؛ مما يزيد شعوري بالوحدة والضغط، وأخاف أن أكون زوجة غير صالحة، أو أمًّا مقصّرة في تربية أولادي، وأخاف أن أكون جاحدة أو منافقة.

أنا ضائعة وحائرة، وأبحث عن طريق ثابت يثبتني على ديني، ويرشدني إلى كيفية التعامل مع زوجي برفق وحكمة، وكيف أربي أطفالي تربية إيمانية صحيحة في مجتمع غربي بعيد عن أهلنا والمسجد، وأحافظ على نفسي من الضياع والخوف.

جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أم محمد .. حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -ابنتنا الفاضلة- في الموقع.

بداية نحيي هذه الرغبة في الخير، والرغبة في إصلاح الذرية، وصلاح النفس، والثبات على هذا الدين العظيم، فهنيئًا لكِ على هذا الشعور، وأرجو أن تكوني من القابضات على الجمر، الحريصات على هذا الدين العظيم في زمان الغربة والغرباء، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعينكِ وزوجكِ على الخير، وأن يُصلح لنا ولكم النية والذرية.

وبداية: نبشركِ بأن فرص النجاح كبيرة، وأن هذا الزوج والأبناء فيهم الخير الكثير، فقط نحن بحاجة إلى أن نطور قدراتنا ومهاراتنا على التكيف مع أي بيئة نحن فيها، وإذا كنتم –ولله الحمد– قد علَّمتم الأبناء الصلاة مبكرًا، فإننا نبشركم بأنهم سيعودون إلى قواعدهم، وسيعودون ليحافظوا على صلاتهم، طال الزمان أو قصر؛ لأن البدايات الصحيحة توصل –بتوفيق الله– إلى نهايات صحيحة.

وأقترح عليك بداية أن تطلبي من زوجكِ أن تأتوا لأداء عمرة (المسجد الحرام)، وتعيشوا شيئاً من الوقت في بلاد إسلامية وعربية، لعلَّ ذلك أن يكون سببًا في أن يفتح الله له أبواب الرغبة في العودة يومًا إلى الديار الإسلامية.

ويمكن أن تجعلوا بداية الإجازات والعطلات فرصة لزيارة بلاد عربية وإسلامية، حتى ينظر الأبناء إلى بيئة جديدة، التي سيسمعون فيها الأذان كثيرًا، وسيجدون فيها كثيرًا مَن يدعو إلى الخير، مع أن كثيرًا من بلاد المسلمين –بكل أسف– لا تخلو من الإشكالات والمخالفات، إلَّا أن البيئة الإسلامية تظل داعمة، ولها أثر كبير في نشأة الأبناء.

أتمنى ألَّا تغلقوا على أنفسكم الأبواب، وألَّا تضيقوا على أنفسكم في العلاقات، وأرجو أن يكون الذهاب إلى المسجد في هذه الأوقات المذكورة أيضًا فرصة للتعرف على آخرين وآخريات، ممَّن هم على ذات الحرص وذات الخير، فلا تحجزوا أنفسكم بهذا السجن الوهمي.

وأنا أريد أن أقول: أهل الإسلام في بلاد الغرب والشرق -يعني الأقصى البعيد مثلًا، أو البيئات التي ليست بيئات إسلامية- دائمًا يحاولون تكوين علاقات راشدة بين بيوت مسلمة، في المراكز الإسلامية والمساجد، وفي المناسبات الإسلامية، هذا كله ممَّا يخفف من الغربة والبُعد عن الأهل، والبُعد عن البيئة الإسلامية الخالصة -كما أشرت-.

أيضًا نتمنى ألَّا تقفي طويلًا أمام الأفكار التي عند زوجكِ، فهو يبدو حريصًا على التدين، لكنه حريص على أن يتدين على طريقة الفقهاء القدامى، وأرجو أن تربطيه بمراكز إسلامية ودعاة ناصحين حتى يصححوا له هذه المفاهيم، كما أرجو أيضًا ألَّا تقفي طويلًا أمام السلبيات وحدها، فهذا الزوج وهؤلاء الأبناء فيهم إيجابيات عظيمة، ضخميها في تفكيرك، واحمدي الله عليها، وشجعيهم، واتخذيها مدخلًا إلى الإصلاح ومدخلًا إلى التصحيح.

ونتمنى أيضًا في الاستشارة القادمة أن يشارككِ الزوج في الكتابة، ليته يكتب ما عنده، حتى لو تترجمي ما يقوله، حتى نستطيع أن نتواصل معه ونضع معكم النقاط على الحروف، ولن تكوني ضائعة -بإذن الله- ما دمتِ حريصة على هذا الخير، وهذا الدين العظيم الإنسان يستطيع أن يثبت عليه في أي مكان.

وبالنسبة للتعامل مع الزوج، أرجو أن تدركي أن الزوج بحاجة إلى التقدير والاحترام، فإذا وجد التقدير والاحترام فإنه سيوفر لكِ الحب والأمان، وهذا أغلى ما تتمناه الأنثى، كما أرجو ألَّا يظهر الخلاف والنقاش بينكم أمام الأبناء، واحرصوا دائمًا على ربطهم بالله -تبارك وتعالى- واستفيدي من فرص إقبالهم، وشجعي أيضًا تعلمهم لأحكام هذا الشرع الحنيف الذي شرفنا الله به.

وأنا أريد أن أقول أيضًا: إذا كان زوجكِ لا يستمع للمشايخ الجدد، فحاولي أنتِ أن تستمعي، وتحوِّلي هذا لمناهج تربوية في رعاية أبنائكِ، ومرة أخرى ندعوك إلى عدم الانقطاع عن المجتمع، وإلى الإكثار من أذكار الصباح والمساء، والإكثار من قول: {لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالَمِينَ}، و (حَسْبِي اللهُ وَنِعْمَ الوكيل). واعلمي أن المؤمنة تعلو بنفسها، وتسمو بتزكيتها لنفسها وبذكرها لربها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

ومع هذه المحاولات لن تكوني مقصّرة في تربية الأبناء، وكذلك أيضًا لست جاحدة، ولكن الإنسان يحمد الله على النعم التي عنده، ويشكر الله -تبارك وتعالى- فبشكرنا لربِّنا ننال المزيد.

نحن سعداء بهذا التواصل، ونتمنى أن يستمر هذا التواصل، وشجعي زوجكِ أيضًا على أن يتواصل مع موقعكم، واستمري في تربية الأبناء والمجاهدة، واعلمي أن التربية في البيئات التي فيها صراع لا تخلو من صعوبة، لكنها تُخرِّج إنسانًا متمسكًا بدينه؛ لأنه تجاوز كل هذه الصعاب، وتمسك بدينه وصلاته وصلاحه.

أرجو أيضًا ألَّا تنزعجي من تقلبات المراحل العمرية للأبناء، واعرفوا خصائص المرحلة التي سيدخل عليها هؤلاء الأبناء؛ فإن هذا ممَّا يُعينكِ على حسن إدارة البيت، وحسن توجيههم، وأكثري لهم من الدعاء ولنفسكِ؛ فإن علينا أن نبذل الأسباب، ثم نتوكل على الكريم الوهاب -سبحانه وتعالى-، والله يلومنا على التقصير، ولكنه يسامحنا في القصور، فالإنسان يبذل ما استطاع، والعظيم يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.

فقومي بما عليكِ، وكوني عونًا لزوجكِ دائمًا، وتلمّسي مواطن رضاه، فإنكِ تؤجرين على ذلك، ولا تحاولي أن تعانديه، أو تهددي الثوابت التي عنده، ولكن بادري بمطاوعة فيما فيه طاعة لله -تبارك وتعالى-، ثم اجتهدوا في زيادة القواسم المشتركة بينكم؛ فإن هذا مما يقرب الشقة بين الزوجين.

نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية والثبات، ونسأل الله أن يُسهل لكم العودة إلى بلاد عربية وبلاد إسلامية، تجدون فيها بغيتكم ولو لبعض الوقت، وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً